المعري، أن نورده في ذيل الكتاب، لأنه قد يظن أنه يقع هنا موقع الاستطراد. غير أنا رأينا الإتيان به في هذا الموضع أقرب إلى أن يكون بمنزلة التمهيد الذي يعين القارئ، ويهيئ ذهنه، لتفهم ما سنذكره بعد من طريقة المعري في استعمال الجناس وغيره من المحسنات البديعية في ديوانه سقط الزيد، وديوانه الدرعيات، وكتابه لزوم ما لا يلزم. وخلاصة ما ذكرناه آنفا أن المعري كان رجلا متناقضا، يجمع بين حب النصوع والوضوح، وطلب الإخفاء والغموض، وبين زخرف الحضارة، وصلابة البداوة، وتأثر مذاهبها، وبين دماثة الأدباء وحزونة العلماء، يضاف إلى جميع هذا عقده النفسية المتراكبة، والقيود التي فرضها على نفسه لقمع الشهوات، مع رغبته الجامحة في الشهوات. فهلم ننظر إلى انعكاس جميع هذا في طريقة استعماله للجناس.
نبدأ أولا بشعره البغدادي، الذي كان يجنح فيه إلى إظهار ملكته، والتجمل إلى العلماء، والتحبب إلى الأدباء، والتملي من ترف الحضارة الأدبية التي وجدها ببغداد، والتظرف باستعمال منهج البداوة والجزالة. في هذا الشعر نجد أن المعري كان حق حريص على أن يكسب حسن رأي الناس فيه، وكان من أجل ذلك يسلك مسلكا أشبه شيء بمسلك الطالب النابه، الذي يريد أن ينال أقصى ما يستطاع نيله من درجات في الامتحان. فكان يستعمل الجزالة، لا لأنه يحبها فحسب، ولكن ليسر العلماء الذين يحبونها، والأدباء الذين يطربون لها، وكذلك كان يحاكي مذاهب البدو، ويتظرف بالغزل في البدويات، لأن أدباء بغداد وظرفاءها كان يعجبهم ذلك. وكان يصف طيف الخيال، وبكاء الفتاة على الكثيب، كل ذلك ليجاري روح تلك المدينة المترفقة المتأنقة، التي كان يلذها أن تسمع مثل هذه الأوصاف مرصعة بالجوهر النادر، من التجنيس والتوشية. وكان يضفي على كل ذلك حرارة عاطفية. وحلاوة فكاهية، وافتنانه في النادرة والإشارة العلمية، والنورية التي هي أخت الجناس، والإغراب في الجرس على نحو دقيق رقيق، يذكر السامع برنات البحتري وطنات القدماء، من أمثال زهير والنابغة.