كان المعري في شعره البغدادي، نابغة يشعر بالحاجة إلى أن يعترف به النوابغ. ولعله أول شعر نظمه وهو يشعر من نفسه بالضعف، خوفا من أن يكون الحكم عليه قاسيا، وفي نفس الوقت يشعر بالثقة، لما كان يملأ قلبه بالعواطف والأماني والمطامح. وقد جاء شعر المعري البغدادي، نتيجة لهذه الدوافع، متدفقا مندفعا صافيا، وجاءت جناساته ممثلة لهذا التدفع والتدفق، والحرص على الإجادة والامتاع والاستماع. فهو كان يستعملها إما لتقوية الصور التي كان يأتي بها، وإما ليرتاح إلى التجميل والتصنيع، بعد أن تبلغ به العاطفة مبلغا بعيدا. وكان هذا الارتياح بين كل غرض عاطفي وآخر يلائم طبيعته، فقد كان رجلا ضريرا، تعجبه الدندنة والترنم. كلما خلا فكرة من آراء وأغراض واضحة الأعيان. كما أنها تتيح له فرصة التخفيف من العنف، فيما كان يقصد إليه من أغراض، إذ قد كان من جوهر نفسه رجلا متشككا، حريصا على ألا يكشف عواطفه كل الكشف. فمتي عنت له الفرصة بعد إفصاحة، حاول أن يضفي عليها ستارا من زخرفة الصناعة ممزوجا بالفكاهة، يوهم السامع أنه لم يكن جادا فيما كان يتناوله من قبل.
وقد تعاطى المعري أصناف الجناس جميعا في شعره البغدادي، وزاد عليها الجناس السجعي، يجئ به لمجرد الإطراب على طريقة البحتري في قوله:
أتسلى عن الحظوظ وآسي ... لمحل من آل ساسان درس
أو لتقوية الصورة عن طريق النغم، كما فعل زهير في قوله:
إذا لقحت حرب عوان مضرة ... ضروس تهر الناس أنيابها عصل
وكان أحيانا يتظرف بتعاطي التورية، وهي أخت الجناس وبنته، لأن صاحب التورية إنما يفترض أنه يجانس بين كلمه يوردها في كلامه، وأخري تسبق إلى عقل سامعه، مال قوله:
إذا صدق الجد افتري العم للفتى ... مكارم لا تكري وإن صدق الخال