للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سياسة الثعلب الذي جفا العنب لما تعذر عليه بلوغه. وقد صرح بذلك في قوله (اللزوميات).

ولم أعرض عن اللذات إلا ... لأن خيارها عني خنسنه

وقوله يذكر بغداد، وأنه لما لم يستطيع الإقامة بين فضلائها، رأى أن يعتزل الناس جميعًا زهدًا فيهم:

ألم يأتكم أنى تفردت بعدكم ... عن الإنس من يشرب من العد ينقع

ولكنه تعمد أن يظهر للناس أن هذا التزهد والتمسكن إنما كان طبيعة فيه لا طلبا للقربي عند الله، أو تمذهبا وتنسكا على طريقة الفلاسفة. ومتي واجهوه فقالوا له: أنت رجل زاهد أو ناسك، أعرض جانبا، وبالغ في التمسكن، وادعي أنه ليس بزاهد، وليس بناسك، وليس بحكيم، وإنما هو رجل عاجز، حائر لم يستطيع الوصول إلى اللذات فاختار تركها:

وقال الفارسون حليف زهد ... وأخطأت الظنون بما فرسنه

ومع أن هذا الذي يقوله كان صدقًا وحقًا، كان يورده على سبيل التواضع، لئلا يقبله الناس منه، وليلحقوا في نسبته إلى الزهد والنسك والتفلسف ما شاءوا من أوهام. وقد كان هذا المسلك من المعري غاية في الخبث والدهاء.

ولا ريب أن المعري قد جعل لنفسه، من هذا الاعتزال، الذي فر إليه، راضيا، من آمال الدنيا وآلامها، درعا واقية. وجعل يفتن في حوط هذه الدرع بما من شأنه يقويها ويزيدها كثافة إلى كثافتها. فلزم الحزونة في التعبير، اصطناع الغريب، يرضي به شيطانه، ويغيظ أقرانه. واعرض عن شرب الخمر، وغشيان النساء، وتقوي على هجر هذه الملذات، بترك اللحم واللبن، وما يخرجه الحيوان مما يلبس أو يؤكل أو يشرب. ولا يخفي أن في هذا المسلك من الازدراء بالناس ما فيه،

<<  <  ج: ص:  >  >>