حين يسلكه صاحبه لا طلبا للجنة أو "نرفانا" أو "الشهود القدسي"، ولكن احتقارا لما يتناحر عليه الناس، وإظهاره للقوة طاقة الغاديين الرائحين من ولد آدم وحواء.
وعندي أن المعري قد عمد عمدا إلى طلب السيطرة والجبرية والسلطان على الناس من هذه الطريق- طريق ادعاء النسك والمسكنة والزهد والاختفاء داخل درع من القيود. وقد بلغ بالمعري اعتداده بنفسه، وهو داخل درعه هذه الكثيفة المخيفة، أن يصول على العلماء في آفاق الأرض، برسائل تنطق حروفها بأنه كان يستجهلهم، وحسبك شاهدا واحدا "رسالة الغفران" ونظائرها فيما أملى ذلك الرجل الفذ كثير (١) ولم يقف عند الصولة على العلماء، فقد تعداها إلى أن يصول على المجتمع كله. بما كان يكيله من هذا النقد الساخر الذي لم يغادر ربا ولا نبيا ولا أميرا ولا منجما، ولا ظاهرة عصره، إلا فراها بشفرة لا تنكل. واللزوميات مفعمة بهذه الأصناف. وقد صال على علماء بغداد ومجالس فضلائها التي حضرها وود البقاء في بغداد من أجلها-أليس هو القائل:
وكان اختياري أن أموت لديكم ... حميدا فما ألفيت ذلك في الوسع
صال على هذه المجالس وعلى أولئك الفضلاء، باجتذاب الطلاب من آفاق الأرض إلى داره بالمعرة. واني لأعجب من تناقض المعري (وخبرته بالناس) حين أعلن إعلانا لا تورية فيه، أنه سيعتزل البشر اعتزالا لا تشوبه شائبه اختلاط، ثم رضي بعد ذلك أن يعجل من داره مدرسة لهؤلاء البشر، يثوبون إليها من كل صقع، وكأنه أنما رحل عن بغداد لترحل إليه بغداد.
ثم قد صال على الولاة والأمراء في عصره، بدعوى الصلاح والضعف والفقر والتقشف (مع أن الطلاب الذين كانوا يفدون إليه إنما كانوا يعيشون من البر الذي