للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نفسه كثيرًا، كسائر ما في الظائيات والشينيات، وهلم جرا.

ويعجبني قول ابن قتيبة في الشعر والشعراء: «وللشعر أوقات يسرع فيها أتيه، ويسمح فيها أبيه. منها أول الليل قبل تغشي الكرى. ومنها صدر النهار قبل الغداء. ومنها يوم شرب الدواء. ومنها الخلوة في الحبس والمسير (١)». والذي يعجبني من قول ابن قتيبة هذا، أنه بفكره الناقد الثاقب قد تنبه إلى أن قرض الشعر لا يتأتى إلا مع العزلة، ولما كان هو في ذات نفسه ليس بشاعر فإنه افترض أن الشاعر إنما تتأتى له العزلة في الأوقات التي تتأتى فيها لسائر الناس من أهل زمانه، كأول الليل، وصدر النهار إلى آخر ما قاله. ولا يفوتنك ذكر الحبس، فهو يدل على أن الفضلاء كانوا كثيرًا ما يتعرضون لبائقته في ذلك العصر وقل منهم من كان يسلم منه. (ولا أحسب عصرنا هذا أرحب صدرًا بالفضلاء أو أقل جورًا عليهم، وأفاضل الناس أغراض لذا الزمن، كما قال أبو الطيب (٢)).

هذا وقد خفي عن ابن قتيبة أن الشاعر لا ينتظر أن تتأتى له ظروف العزلة التي تتأتى لغيره من سائر الناس، ولكنه يصنع العزلة لنفسه صنعًا عندما يحس بدافع الشعر. وذلك بأن ينفر من الناس كما ينفر الوحش أو يختفي كما يختفي ذو الجريرة. ولقد يكره حينئذ مقدم الزور الكريم وإيناس الصاحب الحميم. والشاعر في هذه الحال أحوج ما يكون لمن يعطف على حاله، ويعينه بالتخلية على أن يعتزل كما يشاء، ويهيئ له في عزلته ما عسى أن يرغب إليه من حاجة الطعام والشراب. وقصة جرير التي مرت آنفًا نص في هذا الذي نراه، إذ قد أمر بنبيذ يُعد له، وسراج يوقد، ثم اعتزل وتعرى وجعل يهمهم كمن أصابه مس من الجن، حتى فزعت العجوز من أمره.


(١) الشعر والشعراء -طبعة ليدن- ص ١٩.
(٢) راجع مقالة يرتداند رسل في هذا الباب.

<<  <  ج: ص:  >  >>