ثم كما ترى عاد إلى منزله، وجعل يهمهم ويزمزم واعترته حالة الجذب وضاقت. نفسه حتى تعرى من ثيابه ثم اتلأب به منهاج القول.
واتفق الشاعر إن في كلتا الحالين في طلب الخلوة. والحق أن حال الجذب نفسها تضطر الشاعر إلى الخلوة والتأبد المطلق. ومن ههنا زعم الناس له مصاحبة الرئي. وليس السر في طلب الخلوة هو طلب التروي وحده، فمن الناس من يروض نفسه على التروي بحضور غيره، من ذلك ما يفعله كثير من المؤلفين حين يُملون- ولا يخالجني أدنى شك في أن أبا العلاء المعري قد كان يدير شعره في نفسه مرات قبل أن يمليه. وقد كانت خلوات ذلك الرجل الفذ أكثر من لقائه الناس، كما أنه قد كان بينهم بمنزلة الملك إذا أراد أن ينصرف الناس عنه انصرفوا.
وإنما السر في طلب الخلوة هو الحرص على طرح الشواغل والانصراف الكامل إلى النفس واستخراج مخزونها المغيب الذي يضن به صاحبه عن كل مشهد.
وأكاد أزعم أنه ليس من عمل للإلهام فيه نصيب، إلا وصاحبه يؤثر العزلة التامة. ومن أجل ذلك غري الأنبياء بالخلاء قبيل دعواتهم. وللكاتب المؤرخ الإنجليزي تُوينبي فصل جيد في كتابه «دراسة في التاريخ» أفرده لأهمية العزلة بالنسبة للإنتاج جميعه (١)، هذا والشاعر العربي لشدة ما يلم به من حالة الجذب، من أشد الخلق حاجة إلى العزلة، وحاجته إليها أشد من حاجة الناثر وما بمجراه، ولا شك أن الناثر ومن بمجراه قد يكفيهم أن يتيسر لهم جو الروية ولو في غير عزلة تامة، والذي يروى عن أحمد شوقي من أنه كان ينظم في كل مكان مما يقوي عندنا أنه كان يندفع إلى الصناعة كثيرًا، على قوة ملكته وإجاده التي لا تنكر وأحسب أيضًا أن كثيرًا مما نظمه صاحب اللزوميات ليوفي به شروط ما التزم به أو يتم به بعض الأبواب، لم يخل فيه إلى
(١) وقد استشهد في الذي استشهد به بسنوات ابن خلدون الأربع التي قضاها في شبه عزلة يعد دراسته الكبرى للتاريخ.