أجندل ما تقول بنو نُمير ... إذا ماالأير في است أبيك غابا
فسمعت الراعي قال لابنه:«أما والله لقد طرحت قلنسوته طرحة مشئومة.» قال حرير: والله ما القلنسوة بأغيظ أمره إلي لو كان عاج علي. فأنصرف جرير غضبان. حتى إذا صلى العشاء بمنزله في علية له، قال ارفعوا لي باطية من نبيذ وأسرجوا لي. فأسرجوا له وأتوه بباطية من نبيذ. فجعل يُهمهم. فسمعت صوته عجوز في الدرا. فاطلعت في الدرجة. حتى نظرت إليه فإذا هو يجبو على الفراش عريان (١) لما هو فيه. فانحدرت فقالت ضيفكم مجنون رأيت منه كذا وكذا. فقالوا لها اذهبي لطيتك نحن أعلم به وبما يمارس. فما زال كذلك حتى كان السحر. ثم إذا هو يكبر، قد قالها ثمانين بيتًا في بني نمير. فلما ختمها بقوله:
فغض الطرف إنك من نُمير ... فلا كعبًا بلغت ولا كلابا
كبر ثم قال، أخزيته ورب الكعبة. ثم أصبح حتى إذا عرف أن الناس قد جلسوا في مجالسهم بالمربد، وكان يعرف مجلسه ومجلس الفرزدق دعا بدهن فادهن إلى آخر الخبر.» والخبر الأول فيه مصداق بعض ما ذكرناه لك آنفًا من أن الشاعر قد يعمد إلى القول فتضيق نفسه ويضطرب فكره ويضجر وتأخذه السآمة، ثم يصير إلى ضرب من الجنون العصبي ثم يفتح عليه آخر الأمر. واستنجاد الفرزدق بشيطانه نص في هذا الباب. ثم ما قد ذكرناه بادي بدا من أنه رام فنون الشعر فأعيت عليه. ولعله إنما حاول ألوانًا من الأوزان، حتى فُتح عليه آخر الأمر بالطويل وبالفاء المرفوعة المطلقة. والخبر الثاني فيه مصداق أيضًا لبعض ما ذكرناه آنفًا. وذلك أن الشاعر فتح عليه منذ البدء بمفتاح تعبيره وهو الوافر والباء المفتوحة المطلقة في قوله:
أجندل ما تقول بنو نُمير ... إذا ما الأير في است أبيك غابا