الشاعر ومذهبه مباين كل المباينة لما تقتضيه أصول التكهن من المحافظة المطلقة وإخضاع الذات للرسوم والقيود، والتماس مصادر القول من وجوه التعبد، وعلى ضوء الشعائر، وعلى نحو رتيب يراد به ترويع النفوس وإرهابها، لا استثارة كوامنها وإطراب أسرارها ومخالطة خلجاتها- وكل هذا من مطالب الشعر ومقاصده.
ولا أباعد إن زعمت أنه لما امتازت طبقة الكهنة فصار لها مذهبها وحدودها وقيودها، وضاق بذلك نطاقها عن نزوات الشعر وجمحاته، أخذ الشاعر العربي يلتمس لنفسه متنفسًا من غير طريق التكهن. ولعله بدأ ذلك بالثورة على التكهن، ومخالفة أساليب الكهنة في منهج الحياة ومنهج القول.
وإذ الشاعر لا يقدر بحال أن يبعد عن استشعار القيم واختراعها والتغني بها، لدقة خسه وقوة خياله، فإنه أبدًا في طلب المذاهب. على أن المذاهب مهما تلائمه في أولها فإن مصيرها إلى ألا تلائمه آخر الأمر، لما تقتضيه طبيعة كل مذهب من الاستقامة على وجه من وجوه المحافظة والشكلية متى نضج واتلأب أمره.
وأحسب أن الشاعر العربي في قلقه عن مذهب الكهان أخذ يجنح إلى الفروسية، طلبًا للحرية والانطلاق من سبيلها. والذي يدعوني إلى هذا الزعم هو ما أجده من كثرة الشعراء الفرسان في الذي بين أيدينا من دواوين القدماء ومختاراتهم. ومن أمثلة ذلك الحرث بن ظالم وعامر بن الطفيل وطفيل الغنوي، والمهلهل بن ربيعة وعنترة بن شداد والحصين بن الحمام وعمرو بن كلثوم، وكثير غير هؤلاء. وكالراجح عندي أن الفروسية العربية ما ثبت قيمتها إلا الشعر. ذلك بأن الشعراء كما قدمت لك أبدًا في طلب المذاهب والقيم. وإذ أحسوا في الفروسية طلاقة يخرجون بها من قيود التكهن، ثم لا يكونون مع ذلك بعيدين عن مكان السيادة، فإنهم اقبلوا على تجاربهم فيها يتغنون بها، ويبثون نبأها بين مجتمعهم بها في منزلة وسط، بين الدين ذي الرهبوت، والرياسة ذات الوقار.