ثم إن الفروسية نفسها صارت آخر أمرها مذهبًا محافظًا، ذا رسوم وأدب وقيود. وأصبح غير عسير على الكريم من القوم أن يكون فارسًا بطلاً من غير أن يكون شاعرًا خالصًا شعر. بل لعل من لم يكن شاعرًا من القوم قد كان حريًا أن يكون أقوم بواجب الفروسية ورسمها من الشاعر، لما تقتضيه طبيعة الشعر من كراهة المحافظة ومن الجنوح إلى الحرية والانطلاق.
ولا أدل على ثبوت مذهب الفروسية عند العرب من هذه القصص الكثيرة التي يذكرها لنا الرواة عن ربيعة بن مكدم حامي الظعن، وبسطام بن قيس، وجساس بن مرة، وعنترة بن شداد. وإليك، على سبيل المثال، هذه القصة مما رواه ابن إسحق في السيرة، يرفعه إلى سيدتنا أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها في خبر هجرتها، قالت: «فارتحلت بعيري ثم أخذت ابني فوضعته في حجري ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة قالت: وما معي أحد من خلق الله قالت: فقلت اتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي. حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عُثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار. فقال لي: إلى أين يا بنت أبي أمية؟ قالت: أريد زوجي بالمدينة. قال أو ما معك أحد؟ قالت: لا والله إلا الله وبُني هذا قال والهل ما لك من مترك. فأخذ بخطام البعير. فانطلق يهوي بي. فوالله ما صحبت رجلاً من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه. كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم استأجر عني. حتى إذا نزلت استأخر ببعيري فحط عنه ثم قيده في الشجرة ثم تنحى إلى الشجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله. ثم استأخر عني فقال: اركبي. فإذا ركبت فاستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه. فقاد بي حتى ينزل بي، فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة. فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية، (وكان أبو سلمة بها نازلاً)، فادخليها على بركة الله. ثم انصرف راجعًا إلى مكة. فكانت تقول: ما أعلم أهل البيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل