ووضعها في موضعها، ثم لم يسلم مع ذلك من الطعن، حتى قيل أنه أول من أفسد الشعر، روى ذلك أبو عبد الله محمد بن داود بن الجراح، قال: وحدثني محمد بن القاسم بن مهروية، قال: سمعت أبي يقول: أول من أفسد الشعر مسلم بن الوليد ثم اتبعه أبو تمام، واستحسن مذهبه، وأحب أن يجعل كل بيت من شعره غير خال من بعض هذه الأصناف، فسلك طريقا وعرا، واستكره الألفاظ والمعاني، ففسد شعره، وذهبت طلاوته، ونشف ماؤه. وقد حكى عبد الله بن المعتز في هذا الكتاب الذي لقبه البديع أن بشارا وأبا نواس ومن تقيلهم، لم يسبقوا إلى هذا الفن، ولكنه كثر في أشعارهم، فعرف في زمانهم. ثم إن الطائي تفرغ له، وأكثر منه، وأحسن في بعض ذلك، وأساء في بعض؛ وتلك عقبى الإفراط، وثمرة الإسراف، قال: وإنما كان الشاعر يقول من هذا الفن البيت والبيتين في القصيدة، وربما قرئ في شعر أحدهم قصائد، من غير أن يوجد فيها بيت واحد بديع. وكان يستحسن ذلك منهم إذا أتى قدرًا، ويزداد حظوة من الكلام المرسل. وقد كان بعضهم يشبه الطائي في البديع بصالح بن عند القدوس في الأمثال، ويقول: لو كان صالح نثر أمثاله في تضاعيف شعره، وجعل منها فصولا في أبياته، لسبق أهل زمانه، وغلب على ميدانه. قال ابن المعتز: وهذا أعدل كلامٍ سمعته". أهـ.
وكلام الآمدي هذا ومن على طريقته من النقاد الأوائل والمحدثين، يهمل أمرًا في غاية الأهمية، وهو حقيقة الفرق بين الجناس (وقل إن شئت سائر المحسنات البديعية) الذي يقع في كلام الأوائل من شعراء الجاهلية والإسلام، وأنواع الجناس التي تقع في كلام المتأخرين. وهذا الإغفال واضحٌ، من جهة نسبتهم الفرق كله إلى الكم لا الكيف، ونسبته أيضًا إلى وقوع الجناس عفوًا واتفاقًا عند القدماء، وعن تصيد وتعمد عند المحدثين، وإعراضهم كل الإعراض عن أن يتفهموا دوافع العفو والاتفاق وأسبابهما في شعر أولئك، ودوافع التصيد والتعمد وأسبابها عند هؤلاء. وقد ثبت لديك أيها القارئ الكريم مما استشهدنا به من كلام امرئ القيس والنابغة، أن