للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

إن هذه الحالة التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، تجعل مجرد التفكير في كون الوحي إلهاماً نفسياً ضرباً من الجنون، إذ من البداهة بمكان أن صاحب الإلهامات النفسية والتأملات الفكرية لا يمر إلهامه أو تأمله بمثل هذه الأحوال.

وإذاً فإن حديث بدء الوحي على النحو الذي ورد في الحديث الثابت الصحيح، ينطوي على تهديم كل ما يحاول المشككون تخييله إلى الناس في أمر الوحي والنبوة التي أكرم الله بها محمداً عليه الصلاة والسلام، وإذا تبين لك ذلك أدركت مدى الحكمة الإلهية العظيمة في أن تكون بداءة الوحي على النحو الذي أراده الله عز وجل.

وربما عاد بعد ذلك محترفو التشكيك، يسألون: فلماذا كان ينزل عليه صلى الله عليه وسلم الوحي بعد ذلك وهو بين الكثير من أصحابه فلا يرى الملك أحدٌ منهم سواه؟

والجواب: أنه ليس من شرط وجود الموجودات أن تُرى بالأبصار، إذ إن وسيلة الإبصار فينا محدودة بحد معين، وإلا لاقتضى ذلك أن يصبح الشيء معدوماً إذا ابتعد عن البصر بعداً يمنع من رؤيته. على أن من اليسير على الله جل جلاله - وهو الخالق لهذه العيون المبصرة - أن يزيد في قوة ما شاء منها فيرى ما لا تراه العيون الأخرى، يقول مالك بن نبي في هذا الصدد:

إن عمي الألوان مثلاً يقدم لنا حالة نموذجية، لا يمكن أن ترى فيها بعض الألوان بالنسبة لكل العيون، وهناك أيضاً مجموعة من الإشعاعات الضوئية دون الضوء الأحمر وفوق الضوء البنفسجي لا تراها أعيننا، ولا شيء يثبت علمياً أنها كذلك بالنسبة لجميع العيون. فلقد توجد عيون يمكن أن تكون أقل أو أكثر حساسية.

ثم إن استمرار الوحي بعد ذلك يحمل نفس الدلالة على حقيقة الوحي وأنه ليس كما أراد المشككون: ظاهرة نفسية محضة. ونستطيع أن نجمل هذه الدلالة فيما يلي.

١ - التمييز الواضح بين القرآن والحديث، إذ كان يأمر بتسجيل الأول فوراً، على حين يكتفي بأن يستودع الثاني ذاكرة أصحابه، لا لأن الحديث كلام من عنده لا علاقة للنبوة بله، بل لأن القرآن موحي به إليه بنفس اللفظ والحروف بواسطة جبريل عليه السلام. أما

<<  <  ج: ص:  >  >>