للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كان. ثم وصل ذلك بالنسيب فشكا شدة الوجد وألم الفراق وفرط الصبابة والشوق. ليُميل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه وليستدعي به إصغاء الأسماع إليه لأن التشبيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب، لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فليس يكاد أحد يخلو من أن يكون متعلقًا منه بسبب وضاربًا فيه بسهم، حلال أو حرام، فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه، والاستماع له، عقب بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره، وشكا النصب والسهر، وسرى الليل، وحر الهجير، وإنضاء الراحلة والبعير. فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء، وذمامة التأميل، وقرر عنده ما ناله من المكاره في المسير، بدأ في المديح فبعثه على المكافأة وهزه للسماع وفضله على الأشباه وصغر في قدره الجزيل».

وهذا كما ترى وصف مجمل للقصيدة من حيث هي، ولقصيدة المدح بوجه خاص. ومحل النظر حديثه على الأطلال والنسيب فهو عميق دقيق. وقد أشرنا في الجزء الأول، إلى رأي للأستاذ المستشرق جب، في كلمة نشرها في مجلة معهد الدراسات الشرقية بلندن، بعنوان «اللغوي والشاعر» (١) تحدث فيها عن روح الحنين الذي يرومه الشعراء بمطالع النسيب. وقد ذكر أن هذا الحنين وثيق بالارتباط بالصحراء وحياة الحل والترحال، وأن العربي لم يكد يتخلص منه بحال في طريقة أدائه. وذكر في هذا المجرى أن كثيرًا من مطالع المتنبي الحزينة إنما هي ضرب من النسيب. والكلمة قيمة جيدة للغاية وقد أشرنا في المرشد إلى أنه ربما يكون قد نظر من خلالها إلى بعض حديث ابن رشيق في العمدة، في باب المبدأ والخروج، والنهاية إذ تعرض لأسلوب المتنبي في التقديم بالفخر ونعوت الخيل وإلى أساليب بعض المحدثين في ذكر الرياض والرياحين (٢).


(١) The Bulletion of the School of Oriental Studies, London, ١٩٥٠ - Poet and Philologist.
(٢) راجع العمدة (المبدأ والخروج والنهاية) ولا سيما ص ٢٢٩ - ج ١ - طبعة مصطفى محمد ١٩٥٥ تحقيق الشيخ محيي الدين عبد الحميد.

<<  <  ج: ص:  >  >>