ولا قليب ولا ممر (والقليب: البئر) وإنما هي تغرف من النيل وقد ثلمها تطاول الدهر وبؤس الفلاحين، وعجزهم أن يستبدلوها بغيرها، وهذا أمر عرفته بالمعاينة، وقد كان التيجاني رحمه الله حضريًا من أهل أم درمان.
ومن ذلك قوله في الشجرة المطلة على النيل:
وتلك يأوي إليها ... في الوقدة المستحر
ثم قوله بعد أن فرغ من وصف المنظر البادي من توتي:
كم في المزارع قوم ... شم العرانين صعر
ذياك يعزق في العشـ ... ب جاهدًا ما يقر
إلخ .. إلخ
فهذا كله عناء لا طائل وراءه. وما أشك أن الدفع الأول الذي ألهم التيجاني أن ينظم هذه القصيدة هو رغبته أن يفصح بمعاني النشوة والفرح التي يحسها الإنسان عندما يستقبل ملتقى النيلين وتوتي عند الصباح أو الأصيل. واختيار التيجاني للمجتث، وهو وزن رشيق حلو النغمة لا يصلح لغير مجرد الإطراب والإمتاع, يدل على ذلك. ولكنه رحمه الله لم يطلق نفسه على سجيتها، وفكر في النقاد العصريين ممن يعجبهم ملاحظة الدقائق (حتى لو كان الشاعر بعيدًا عنها بحيث لا يراها) كالجرار المنشعبة، وكظل الشجرة الذي يأوي إليه "المستحر"وكالفلاحين المجاهدين بمساحيهم ومكاتلهم ومعاولهم -لا يخالجني شك أن الأبيات المتكلفة التي نظمها التيجاني ليصور بها هاته التفاصيل ما أوقعها في خاطره إلا الرغبة في ترضية هذا النوع من النقاد الذين يسمون أنفسهم واقعيين، ويعجبهم تصوير الكوخ والكدح