للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن أمثلة الأول أيضًا قوله:

قف بالديار التي لم يعفها القدم ... بل وغيرها الأرواح والديم

لا الدار غيّرها بعدي الأنيس ولا ... بالدار لو كلمت ذا حاجةٍ صمم

دارٌ لأسماء بالغمرين ماثلةٌ ... كالوحي ليس بها من أهلها إرم

وقد أراها حديثًا غير مقويةٍ ... السر منها فؤادي الجفر فالهدم

فلا لكان إلى وادي الغمار ولا ... شرقي سلمى ولا فيد ولا رمم

شطت بهم قرقرى بركٌ بأيمنهم ... والعاليات وعن أيسارهم خيم

عوم السفين فلما حال دونهم ... فند القريات فالعتكان فالكرم

كأن عيني وقد سال السليل بهم ... وعبرةٌ ما همو لو أنهم أمم

غربٌ على بكرة أو لؤلؤٌ قلقٌ ... في السلك خان به رباته النظم

وهذا تجربته سحيقة الخفاء، وإنما هي بقايا تجربة صار بها التذكر والشجن إلى ضرب من الهيام التائه. والشاعر يستهل لك بذكر الربع ووقفة الوفاء عنده ويذكر أنه ظاهر مستبين ثم يضرب عن ذلك وينفيه يذكر أنه قد حال وتغير، ثم يكاد يضرب عن ذلك بما يذكره من أن في الدار بيانًا وإفصاحًا لو أرادت -وألفتك إلى قوله «لا الدار غيرها بعدي الأنيس» -وفي كل هذا من الكناية عن أم أوفى ما لا يخفى- إذ قد بانت عنه ولم تصر عند آخر، ولو شاءت لرجعت إذ هو على رجوعها حريص. وهذه الوقفة منه وهذا الإلحاح في طلب الإبانة شبيه بما قال في المعلقة:

أمن أم أوفى دمنةٌ لم تكلم ... حبومانة الدراج فالمتثلم

ثم أخذ يترنم بذكر المواضع -ثم صار إلى البكاء وهذا من أشد خروج ملاءمةً لنسيبه، وقوله: «وعبرة ما همو لو أنهم أمم» مما ينبغي أن يتأمل، لأنه كاد يصير به إلى قريّ من الإفصاح.

<<  <  ج: ص:  >  >>