وطلب براعة الاستهلال، وقد سبق منا القول بأن المطالع والابتداء والمقدمة كل أولئك لا يمكن أن يحد له حد يسمعه فيقال إن أبا نواس قد خرج عنه حقًّا. امرؤ القيس وحده عنده من الابتداء نحو قوله:
لعمرك ما قلبي إلى أهله بحر ... ولا مقصر يومًا فيأتيني بقر
ونحو قوله:
أرانا موضعين لأمر غيبٍ ... ونسحر بالطعام وبالشراب
وقوله:
أحار ابن عمرو كأني خمر ... ويعدو على المرء ما يأتمر
وقوله:
ديمة هطلاء فيها وطف ... طبق الأرض تحرى وتدر
وقوله:
رب رام من بني ثعلٍ ... مثلج كفيه في فتره
هذا عدا مطالعه المشهورة:
وقد مر من الشواهد في هذا الباب قدرٌ كافٍ.
وينبغي التنبيه إلى أن أبا نواس له ديوان -أو ما كأنه ديوان قائم بذاته في الكلاب والصيد، يجعله من حيث حاق الجودة في مصاف أبي النجم العجلي ومحسني الرجاز، والتزامه في كل ذلك بموضوع واحدٍ لا يخفى وقد استشهد الجاحظ بطردياته وأورد منها كاملة في الحيوان. وكان الجاحظ بأبي نواس معجبًا. وكأن الجاحظ، مع شهرته بالاعتزال، كان يضمر ميلًا إلى مذهب أهل السنة. وعسى هذا أن يفسر كثيرًا من إغضاء علمائهم عنه، كما أغضوا عن ظاهر انحراف أبي نواس، والله أعلم.