ولم يخل من التعريض ههنا كما أشرنا إلى ذلك في ما تقدم. ولعل الخطيب قد وهم حيث فسر قول حبيب «وتدر كل وريد» فقال: «وإدرار الوريد كناية عن الذبح» قال: «وقوله تدر كل وريد يعني من يحسدها ومن يعاندها». وجليٌّ أن أبا تمام لم يخصص قوله «كل وريد» بوريد من يعاندها أو يحسدها ولكنه عمم ولم يخصص فوجب حمل كلامه على عمومه، وما كل وريد بحاسدها صاحبه، وإنما أراد حبيب التنويه بمعنى التغني بها والترنم طربًا وإعجابًا وقد فطن إلى هذا المعنى بعض الشراح كما أورده المحقق في الهامش، وإن يك إدرار وريد الجارية عائبًا لها فليس إدرار انفعال الغناء بعائب الرجل الفحل به ذلك العيب.
ومثل قوله:
خذها مغربةً في الأرض آنسةً ... بكل فهمٍ غريب حين تغترب
من كل قافية فيها إذا اجتنيت ... من كل ما يجتنيه المدنف الوصب
الجد والهزل في توشيع لحمتها ... والنبل والسخف والأشجان والطرب
لا يستقي من حفير الكتب رونقها ... ولم تزل تستقي من بحرها الكتب
حسيبةٌ في صميم المدح منصبها ... إذ أكثر الشعر ملقىً ماله حسب
من حفير الكتب بالحاء المهملة أشبه بطريقة حبيب لمقابلة الحفير للبحر وبالجيم المعجمة يكون معنى الجفير الجفر بفتح الجيم وسكون الفاء وهو الماء الكثير ولا مقابلة ههنا ويدلك على أن الجفر هو الماء الكثير أو هكذا كان معناه عند حبيب قوله وهو من مجرى ما نحن فيه من أساليب فخره عند نهايات كلامه:
جاءتك من نظم اللسان قلادةٌ ... سمطان فيها اللؤلؤ المكنون