هيكله، ثم ضروب الجرس والحركات والسكتات. ويحسن أن ننبه ههنا إلى أن مرادنا بالجرس نغم الألفاظ ورنينها، كما سبق التبيين له في الجزء الثاني من المرشد، (وعند اللغويين أن الجرس هو صوت الحرف عندما يتذوقه ناطقة بأن يجعل قبله همزة ليتمكن بذلك من المجيء به من غير أن تخالطه حركة كأن تقول في بيان جرس الباء أب والفاء أف والراجح أن تكون الهمزة التي تسبق مفتوحة). ومما مثلنا له هناك أشياء من جناس الحروف كقول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
ومن التكرار كقول المهلهل «على أن ليس عدلًا من كليب» ومن التقسيم وهلم جرا. ثم مع هذا كله، وينتظمه كله، أسلوب من التأليف الموسيقي قوامه التجاوب كتجاوب الأصداء والتقابل والعودة بعد العودة، وهذا المذهب من التأليف الموسيقي لا يتناول اللفظ وحده ولا تفاصيل الوزن والقوافي والجرس فحسب، ولكن المعاني والأغراض وتفاصيل الأغراض ووسائل البيان كالتشبيه والاستعارة. ولكأن كلمة الشاعر تأتلف في نفسه أولًا تأليفًا موسيقيًّا ثم تلتمس العبارات التي تلائمها فتتحد معها. وليس هذا هو عين ما قال به كلردج، لا ولا هو داخل في حيز ما ذكره قدامة من أمر المؤالفة بين الوزن والمعنى -ففي كلا هذين المذهبين تنوع تصرف إرادي واختيار. الذي نراه أن تأليفًا موسيقيًّا كاملًا ينبعث من الشاعر وهذا هو تعبيره الباطن. ويتحد معه اللفظ والمعنى والبيان وهذا تعبيره الظاهر.
وقد عيب على أبي الطيب المتنبي قوله:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدوًّا له ما من صداقته بد
يرى العائب له أن «مداراته» مثلًا أصوب في هذا الموضع. ومن انشد هذا البيت بـ «عدوًّا له ما من مداراته بد» فإنه سيجدها نابية ويهديه إلى ذلك تهافت