لأن الذي يظهر لك منه جانب، هو وحده الذي يستطيع أن تناوله بالدرس الملامس والتحليل- لفظ- معنى- وزن- جرس- نغم- إلخ- أشياء معروفة محسوسة في عرف النقد، والذي لا يظهر هو الذي يلج إلى القلب- وأحسن الجاحظ رحمه الله حين تأمل التأمل الدقيق فذكر من المعنى ضربين: ضرب مطروح على قارعة الطريق تتناوله صناعة اللفظ والمعنى والبيان. وضرب هو سر في غيابات الأنفس يتناوله البيان والتبين، يخلص من القلب إلى القلب. هذا الذي هو سر طريق وصله بيننا وبين صاحبه وخلوصه منه إلينا هو جسم القصيدة الإيقاعي وتأليفها الموسيقي- لا بل جسم القصيدة الإيقاعي وتأليفها الموسيقي إطار يشع به كيانها النوراني الروحاني، والذي ذهبنا إليه من الإشارة إلى بعض جوانبه، إنما هو بمنزلة التقريب، فقد ولله در أبي الطيب إذ قال في نعت الخيل:
وما الخيل إلا كالصديق قليلةٌ ... وإن كثرت في عين من لا يجرب
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وأعضائها فالحسن عنك مغيب
وهاك مثالًا آخر، هو ميمية علقمة بن عبدة، وهي من الروائع، وهي من ثلاثة أقسامٍ الأول نسيب وأوصاف والثاني حكم وأمثال والثالث فخر وأوصاف هن جزء منه، والقصيدة بعد كلٌ واحد، موصول أولها بآخرها، والذي ذكرنا تسميتنا له منها هو الدلالات الظاهرة- ومرادنا هنا التنبيه إلى ما ينبئ ويكشف بعض الكشف عن الدلالات الباطنة، التي هي تعبير إيقاعي موسيقي يشع به كيان روحاني مستقل منفصل متصل معًا، بالدلالات الظاهرة.
الكيان الروحي في ميمية علقمة هذه قوى الحضور جهيره كل الجهارة، ومع ذلك هو شديد خفاء العناصر المنبئة عنه، غير أنها ثم بلا ريب، أول القصيدة قوله:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم ... أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم
أم هل كبير بكى لم يقض عبرته ... أثر الأحبة يوم البين مشكوم