متصرف بين المنزلتين. فمن شاء نظر في قصيدة امرئ القيس:«قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» ونحن نذكر بعد هذا على التفصيل ما تنصرف إليه هذه القصيدة ونظائرها ومنزلتها من البلاغة، ونذكر وجه فوت نظم القرآن محلها، على وجه يؤخذ باليد ويتناول من كثب ويتصور في النفس كتصور الأشكال، ليتبين ما ادعيناه من الفصاحة العجيبة للقرآن» أ. هـ.
والعجب كل العجب من ابن الباقلاني رحمه الله ينسب امر تفوق القرآن وإعجازه إلى دعوى وحجة من عند نفسه كما يتبادر إلى الذهن من قوله:«ليتبين ما ادعيناه» وإنما مراده -أو ما ينبغي ان يكون هو مراده- أن يقول «ليتبين صحة ما نعتقده، ونؤمن به». ذلك بأن حجة القرآن في أنه معجز مذكورة في آياته المحكمات، كقوله تعالى:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ}[يونس] وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}[هود]. وقد أقر الكفرة من صناديد ملأ قريش بإعجازه، وحكى المولى سبحانه وتعالى ذلك عنهم في قوله تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر] وفي قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}[الأنعام] وكون القرآن معجزًا بنظمه متضمن في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة] وفي قوله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. النظم يدخل في مدلول التفصيل، ولفظ النظم نفسه غير وارد في القرآن. وقال تعالى:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ}[الكهف]