البلاغة وغاية البراعة، فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر؛ لأن الذي يقدرون عليه قد بينا فيه التفاوت الكثير عند التكرار وعند تباين الوجوه واختلاف الأسباب التي يتضمن» أ. هـ.
فحوى حجة ابن الباقلاني أن القرآن معجز بنظمه الذي هو في ذروة بلاغة أساليب العربية وأنه مع ذلك لا تفاوت فيه. وقد جرت هذه الحجة ابن الباقلاني إلى أن يبرهن بكل وجه على وجود التفاوت لا بل التهافت والضعف الشنيع كما رأيت في شعر امرئ القيس وقد نبهنا على أن ابن الباقلاني قد غلب عليه في صنيعه هذا حب الغلبة ومراء الجدل وأوشك أن يحيد به عن قصده الأهم الذي من أجله وضع كتابه في الإعجاز، إذ لا يخفى أن أمر إقامة الحجة الدينية في إعجاز القرآن كان هو مطلوبه الأول لا الحجة الأدبية الذوقية وأنه هو المقصد الأهم.
أصل حجة ابن الباقلاني في عدم التفاوت -وهو عنده دليلٌ على الإعجاز- مأخوذ من قوله تعالى:{مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ}[سورة الملك] ولو أن ابن الباقلاني قد كان من شيوخ المعتزلة لاحتج لمقالته بهذه الآية. ولكن ابن الباقلاني كان من شيوخ أهل السنة ومتكلميهم معروفًا بذلك مشهودًا له فيه، وما كان أحد من أهل السنة ليقول بخلق القرآن إذ هو كلام الله المنزل القديم. وكأن ابن الباقلاني تنبه إلى أن مقالته بعدم التفاوت في أسلوب القرآن وإن المعجزة في استواء حال الحسن في وصف النظم القرآني نفسه ربما اشتم منها معنى القول بخلق القرآن فقال من بعد في آخر الفصل الذي أخذنا منه القطعة المتقدمة (ص ٧١) وهو الفصل الذي يتناول فيه الحديث عن جملة وجوه إعجاز القرآن (راجع من ص ٤٨ - ٧١): «فإن قيل فهل تزعمون أنه معجز لأنه حكاية لكلام القديم سبحانه أو لأنه عبارة عنه أو لأنه قديم نفسه قيل لسنا نقول بأن الحروف قديمة فكيف يصح التركيب على الفاسد؟ ولا نقول أيضًا أن وجه الإعجاز في نظم