ويسمونها «الأدب الكلاسيكي» لا يفعلون شيئًا من ذلك. هي لديهم كلٌّ واحد من أوميروس إلى سينكا. ولديهم نحوها نظرة تقديس. وكأن المستشرقين أول درسهم لآداب العربية أنفوا بتعصب ديني أو عنصري من أن يجعلوا للغة العربية منزلة كلغات الأدب الذي هو عندهم كلاسيكي وبهما جاءت النصوص الكنسية المعتمدة من الكتاب المقدس. وما تنبه المستشرقون حين شبهوا اللغة العربية بلغاتهم الدارجة، ليحظوا من منزلة قدسيتها المرتبطة بقداسة القرآن وإعجازه إلى أنهم قد شبهوها بلغاتهم الدارجة أيضًا من حيث الحيوية وقابلية البقاء.
قولنا «الجاهلي» في نعت الأدب نعني النسبة إلى زمان الجاهلية وذلك قبل الإسلام بنحو مائتين أو أكثر أو أقل قليلًا من السنين، على النحو الذي قدره العلماء الأولون. وفي القرآن ذكر الجاهلية الأولى. وقيل هي زمن نوح عليه السلام. وما أشبه أن يكون المراد من الجاهلية الأولى -والله أعلم بمراده في قوله تعالى:{وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} أن يكون: أي تبرج الجاهلية الأولى التي كان عليها أمر الناس قبل مجيء الإسلام. الجاهلية لفظ ذم به الله تعالى زمان كان الشرك ضاربًا بجران. اشتقاقها من الجهل الذي هو نقيض العلم. ولا أدري لماذا يلتمس بعضنا لها اشتقاقًا من الجهل بمعنى الغضب كما في قول التغلبي:
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
إذ مرد الجهل بمعنى الغضب إلى معنى تجاهل المعرفة والاندفاع الذي لا يبالي. واستعمال الجهل بمعنى عدم العلم قديم في العربية. قال تعالى في خبر نوح عليه السلام:{فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أي من الذين لا يعلمون بعد الذي جاءك من العلم من التزام ما يوحى إليك. وفي خبر موسى عليه السلام:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} - أي أن أكون أمرتكم بما ليس