للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فاغفر لعبدٍ مجترم ... وارحم بكاء المنسجم

فأنت أولى من رحم ... وخير مدعو دعي

قال الحارث بن همام، فلم يزل يرددها بصوت رقيق، ويصلها بزفير وشهيق حتى بكيت لبكاء عينيه، كما كنت من قبل أبكي عليه، ثم برز إلى مسجده، بوضوء تهجده، فانطلقت ردفه وصليت مع من صلى خلفه، ولما انفض من حضر، وتفرقوا شغر بغر، أخذ يهينهم بدرسه، ويسبك يومه في قالب أمسه إلخ».

ولا ريب أن في الحريري أناة ومدى سجعاته أمد من متتابعات البديع. ولكن الحريري قد أحكم بناء المقامة على طريقة فارق بها معناها الأول الذي ما غاب عن نظر البديع، وكما قدمنا حاكاه واتخذه مطية للإمتاع والسخرية والهجاء والتعبير عن ذات نفسه بنفسٍ منطلق، مع شيءٍ من الهوائية المدانية للسطحية ولو ظاهرًا. وقد اقترب الحريري بإحكامه فنه إلى شيءٍ بين المسرحية القصيرة والقصة القصيرة. وقد رزقت مقاماته السيرورة لما تضمنته من التنويع نظمًا ونثرًا في شتى ضروب المعارف والجد والهزل المتعمد للإحماض (وهذا يختلف فيه عن البديع الذي كأنه عمد بمقاماته كلها إلى نوع من الإمتاع الجاحظي الذي تخالطه عقارب الوخزات المتعمدة) ومع السيرورة رضا أهل الفضل وجماعة علماء المسلمين. وحسبك قول جار الله الزمخشري شاهدًا:

أقسم بالله وآياته ... ومشعر الحج وميقاته

أن الحريري حرى بأن ... تكتب بالتبر مقاماته

وقد بلغت سيرورة المقامات أوربة. وقصص شوسير ١٣٤٠ - ١٤٠٠ م مع استعارتها من منهج ألف ليلة وليلة إما مباشرة وإما من طريق بلوكاشيو الطلياني كما قيل، شديدة الشبه من حيث منهج روايتها وازدواجية أسجاعها، وأناتها وفكاهتها بطريقة مقامات الحريري ويحسن التنبيه ههنا على أنا نعتقد أن شوسير كان له علم

<<  <  ج: ص:  >  >>