للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أخذ الحريري من أناة المعري من دون تقيته وخبثه إزاء الأديان خاصة. إذ لم تكن به حاجة إلى ذلك. وقد فطن إلى أبي العلاء الفاطنون كما يدل على ذلك خبر من قيل إنه سمعه يزكي نفسه بأنه لم يهج أحدًا فقال له إلا الأنبياء.

وأخذ الحريري من حيوية البديع وإحساسه بأفراد البشر حول رغبته في نقدهم وهجوهم. إلا أنه بحكم أناته كان أرفق. ثم لم تكن له من أصناف المصارعات والمقارعات ما كاتن مثلًا بين البديع وأبي بكر الخوارزمي. فأكسبه ذلك القدرة على أن يجعل نقده ذا لونٍ عام موضوع النظرة فنيها غير ملتهب العلوق بالذاتية المنفعلة كما عند البديع. وأسلوب البديع أسمح وأطبع. وأسلوب الحريري أصنع وأروع. وربما جادت صناعته فدانت انسياب الطبع المتدفق كما في المقامة الشعرية وكما في المقامة الإسكندرانية مثل قوله «إذ دخل شيخ عفرية تعتله امرأة مصبية فقالت أيد الله القاضي وأدام به التراضي، إني امرأة من أكرم جرثومة وأطيب أرومةٍ، وأشرف خئولةٍ وعمومةٍ، ميسمي الصون، وشيمتي الهون، وخلقي نعم العون، وبيني وبين جاراتي بون. وكان أبي إذا خطبني بناة المجد، وأرباب الجد، سكتهم وبكتهم إلخ».

ومثلًا قوله في أول الحلبية: «نزع بي إلى حلب، شوق غلب، وطلبٌ ياله من طلب، وكنت يومئذ خفيف الحاذ، حثيث النفاذ، فأخذت أهبة السير، وخففت نحوها خفوف الطير، ولم أزل مذ حللت ربوعها وارتبعت ربيعها، أفاني الأيام، فيما يشفي الغرام، ويروي الأوام ... إلخ».

ومثلًا قوله في البصرية في آخرها:

«يا من عليه المتكل ... قد زاد ما بي من وجل

لما اجترحت من زلل ... في عمري المضيع

<<  <  ج: ص:  >  >>