لعلك فطنت إلى نفس طبيعة الأندلس ههنا.
يا هل يبلغني السرى أم القرى ... فأهل من ميقاتها إهلالا
لعقيلة الدين التي قد أطلعت ... من مسكة الحجر المقبل خالا
يعنى الكعبة، فجعل الحجر كأنه بخدها وهي عقيلة كريمة، خال- وقد كان الخال مما يستحسن في خدود البيض الملاح.
لله من حلل تشوق وأربع ... تهدي بطيب نسيمها الضلالا
ما استنشقت نفحات هبات الصبا ... إلا لأن جرت بها الأذيالا
طابت معاهدها بأكرم مرسل ... فاق الأنام شمائلًا وخلالا
صلى عليه الله ما ذكر اسمه ... فجلا السنا وكسا الوجود جمالا
فهذه كما ترى ديباجة جزلة عليها من البديع رونق، مع حرارة نفس ونصوع بيان وجودة رنين.
ويذكر عن أحد أمراء الإفرنج الإسبان أنه عجب من سادة المسلمين كيف أقدموا على قتل ابن الخطيب مع فضله الباهر وبيانه الساحر؟ وقد كان رحمه الله من أخريات إشراقات الأندلس، ومن أشدها وهج ضياء، وفخرًا لغرناطة ما أحسبها أخرجت بعده من يضاهيه أو يدانيه، وما كان ابن زمرك على تجويده لصناعته إلا انعكاسة ضوء لمحة من بارقه- تأمل مثلًا قوله:
إليك رسول الله دعوة نازح ... خفوق الحشا رهن المدامع هيمان
غريب بأقصى الغرب قيد خطوه ... شباب تقضي في مراح وخسران
يجد اشتياقًا للعقيق وبأنه ... ويصبو إليه ما استجد الجديدان
فهذا يحاكي فيه ابن الخطيب، وليس فيه نفحات صدقه. وله همزية جاري بها:
أرج النسيم سرى من الزوراء ... سحرًا فأحيا ميت الأحياء
أهدى لنا أرواح نجد عرفه ... فالجو منه معنبر الأرجاء
وكان أمر ابن الفارض آنئذ معروفًا، وعندي أن شعر ابن الفارض وسط إلا ما ندر وفيه بعد نظر، ثم ليس فيه من المديح النبوي شيء ومن عجب الأمر أن الجزالة إنما تعطى