للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مع الذي لا نشك فيه من أن القارئ حفظه الله لا يرى أن مرادنا محض التشبيه حتى كأن المشبه والمشبه به مدرسة واحدة كما يقال بلغة هذا الزمان، أن نحتاط لما مثلنا به البوصيري بأبي الطيب بأن وجه المشابهة بينهما هو في أمر واحد، وهو أن كليهما ذو إقدام على ما يقول، وثقة بالمقدرة على الإفصاح والبيان وجودة الشعر. مع هذا في ديباجة البوصيري متانة نسج تذكرك أبا تمام وامتداد نفس يذكرك ابن الرومي، ولالتزامه جانب العبادة والخشوع في مخاطبة محاسن الذات المحمدية، تجد ثقته لا يخالطها ما سماه الثعالبي في حديثه عن المتنبي «إساءة الأدب بالأدب» وإنما عنى بذلك فرط التحدي وجهارة قوة التعبير مما ينفر عنه الملوك ومنادموهم وصنائعهم والمتنطسون بالقرب منهم والتقرب إليهم. مع هذا ليس البوصيري غير ذي جهارة أو تحدي (١). كلا ذينك لديه، إلا أنهما قد جعلا عنده بعض أساليب قتاله أهل الكتاب. ذلك بأن الحروب الصليبية ما زالت محتدمة نارها على زمانه على انتصار كان من المسلمين بالمشرق وإيذان بقرب انهزام الفرنجة إذ كان جلاؤهم عن عكا وصور قبيل وفاة البوصيري وانتصر المسلمون على التتار على أيدي حماة مصر حرسها الله تعالى، كما انحسرت غمرات الكفر عن المشرق. إلا أن الحال كانت حال جهاد. وقد اشتدت شوكة أهل الصليب بالمغرب على مسلمي الأندلس.

كنا قد قلنا في الجزء الأول من هذا الكتاب في معرض الحديث عن همزيات البحر الخفيف حين صار الحديث إلى همزية البوصيري (توفي رحمه الله سنة ٦٩٦ هـ): «وهي تفصح بحجة الإسلام كما تفصح قصيدة دانتي بحجة المسيحية». [ص ٢٠٣ من طبعة ١٩٧٠ م]. وكان الرجلان كالمتعاصرين إلا أن البوصيري أسبق، إذ تأريخ دانتي ١٢٦٥ - ١٣٢١ م -[أي ٦٦٢ - ٧٢٠ هـ] وتأريخ البوصيري ٦٠٨ هـ مولده و ٦٩٦ وفاته- ١٢١٢ - ١٢٩٨ م ولعل البحث إن جد فيه أصحابه أن يكشف لنا أن دانتي تأثر بالبوصيري وحاكاه وبمداح الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر أسين الإسباني في رسالته عن دانتي أنه تأثر بالمعراج وأحاديثه وبرسالة الغفران المعرية. وعندي أن يكون قد تأثر بالمديح النبوي أقرب. لأن المديح النبوي كان شيئًا ظاهرًا، ويترنم به المسلمون في أعيادهم وجمعاتهم وزواياهم ويترنمون به عند الأفراح وعند التعازي. وفي


(١) جئنا بالياء خطًا للتوضيح ويجوز الوقف بالياء وبذلك قرأ ابن كثير أحد السبعة.

<<  <  ج: ص:  >  >>