وما أشبه مما يذكر في باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. ومن عجب الأمر أن مناهج درس الإنجليزية يتلقى فيها طلابنا ما يتلقون عن الشعر الديني في لغة القوم. ويظلون يجهلون كل الجهل شعرنا الديني. وربما خيل إلى بعضهم أنه ليس بشعر وإنما هو أوراد عبادة مما كان يعكف عليه جيل الرجعية أو الماضي المنقرض. «ويا بؤس للجهل ضرارًا لأقوام».
همزية البوصيري أوشكت أن تبلغ أربعمائة بيت إذ هي نيف وستون وثلثمائة من الأبيات، قل فيهن بيت ساقط. وذلك أنه اجتمع له مع الملكة والصدق والعلم والافتنان، مجال قول واسع. وقد نظم السيرة من غير أن يعمد في ذلك إلى منهج تعليمي أو قصصي سردي. ولكنه سلك مسلك التأمل والموعظة الحسنة وأتبع الأمر ما يناظره أو يقابله أو يمت إليه بنوع صلة من غير التزام بالتسلسل التاريخي، ثقة بأنه لن يقع التباس من هذه الجهة، إذ مصادر السيرة من حيث هي تأريخ معروفة تلتمس في مظانها من كتب السير والتأريخ. ثم أكثر أخبار سيرة النبي صلى الله عليه وسلم معروفة عند العوام والخواص فالشاعر الفحل الذي يتغنى بها لا يجد نفسه مضطرًا إلى عمل وصناعة إلا أن يتعمد إيثار السرد بغرض أن يستوعب أحداث السيرة، وهذا ما صنعه الشيخ يوسف النبهاني في همزيته الألفية، وفيه عناء، مثلًا نظمه الغزوات التي لم يكن فيها قتال:
غطفان ذات الرقاع بواط ... دومة ذو العشيرة الأبواء
بدر الأولى بدر الأخيرة بحرا ... ن سليم لحيان والحمراء
وما أراد النبهاني أن يربى على البوصيري على الأرجح ولكن أن ينظم السيرة نظمًا على غرار همزيته من أجل التبرك.
ويلفتنا في همزية البوصيري أولًا مطلعها:
كيف ترقى رقيك الأنبياء ... يا سماء ما طاولتها سماء
لما يقرع به السمع من صيغة الاستفهام الإنكاري والنداء المؤكد والتفضيل المشتمل على روح من التحدي والقتال. ولا عجب فقد كان زمان البوصيري رحمه الله زمان الحروب الصليبية والمسلمون بالمشرق مقبلون فيها على نصر وقد كشف الله عنهم غماء التتار، وكان البوصيري من أهل الجهاد بالبيان إن كان غيره يباشره بالسيف والسنان. غير أنه رحمه الله هل غلا شيئًا في قوله بعد هذا البيت.