لم يساووك في علاك وقد حا ... ل سنا منك دونهم وسناء
إنما مثلوا صفاتك للنا ... س كما مثل النجوم الماء
السنا الضوء والسناء الشمس والبيت جميل الصياغة متينها ومنه هذا التجنيس والتشبيه بتمثيل الماء لضوء النجوم بانعكاس أشكالها فيه بليغ مذهل أول الأمر، غير أنه ربما أحست فيه نبوة لما يوهم من أن التمثيل لا حقيقة له، ولا يجوز ذلك في حق الأنبياء، وليس هو مراد البوصيري، بلا أدنى شك، إذ معنى لا حقيقية تمثيل ضوء النجوم الذي في الماء أمر استفدناه نحن من اصطلاحات علوم الفيزياء المعاصرة حيث تسمى ما ينعكس على المرآة ونحوها لا حقيقيًا (١)، ولا ريب أن الضوء المنعكس على الماء ومنه ضوء حقيقي وكأن البوصيري قد عمد إلى تلافي ما قد يتبادر إلى الوهم من قوله هذا وليس بمراده، بالأبيات التاليات:
أنت مصباح كل فضل فيها تصـ ... ـدر إلا عن ضوئك الأضواء
لك ذات العلوم من عالم الغيـ ... ـب ومنها لآدم الأسماء
لم تزل في ضمائر الكون تختا ... ر لك الأمهات والآباء
ما مضت فترة من الرسل إلا ... بشرت قومها بك الأنبياء
فالبيت «أنت مصباح كل فضل» أشار به إلى مقام الشفاعة إذ كل الأنبياء عليهم السلام يقول نفسي غيره صلى الله عليه وسلم ثم يشفع الشافعون بعده حتى إن خيار المؤمنين ليشفعون لمن يعلمون إيمانه ممن يتردى بذنبه عند عبور الصراط. والبيت «لك ذات العلوم» إلخ أشار به إلى قوله تعالى: {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم}. أي القرآن وقد نزل على محمد صلى الله عليه وسلم. والأسماء التي لآدم عليه السلام حقيقة لا خيال، فهذا قولنا إن البوصيري لم يرد بقوله «إنها مثلوا صفاتك» إلخ إن ذلك لا حقيقة له وإنه قد عمد من بعد إلى تلافي ما يتبادر من توهم هذا المعنى. والبيت «لم تزل في ضمائر الكون» إلخ واضح غير مشكل بشيء. والبيت «ما مضت فترة من الرسل» يقوي معنى «لك ذات العلوم من عالم الغيب» لأن تبشير الأنبياء صلوات الله عليهم به صلى الله عليه وسلم سببه ما أوحى به الله سبحانه وتعالى إليهم به من سابق علمه. وفي حديث عرباض بن سارية- بكسر العين وسكون الراء وأصل معنى العرباض الرجل الطويل وكان رضي الله عنه من أهل الصفة ومن السابقين ومن نزلت
(١) هذا في باب الظلال (الظل الحقيقي) Real Image كظل الشيء من العدسات والظل اللاحقيقي Virtual Image كظل الشيء من المرآة والظل يكون بالضوء.