والصناعة هنا على سلامة الأداء. ثم يقول البوصيري:
شق عن قلبه وأخرج منه ... مضغة عند غسله سوداء
ختمته يمنى الأمين وقد أو ... دع ما لم تذع له أنباء
صان أسراره الختام فلا الفـ ... ـض ملم به ولا الإفضاء
وينتقل البوصيري في براعة قصصية من خبر الشق إلى بلوغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشده واشتغاله بالذكر والعبادة والتحنث وما كان عند مبعثه من ظهور الشهب تطرد الشياطين عن استراق السمع ثم يجمع بين هذا وبين تزوجه خديجة رضي الله عنها. ولو كان صاحب سرد همه تتابع الأحداث لكان ذكر بعد الرضاعة والفصال أحداثًا أخر ثم أتبع ذلك ذكر الزواج ثم جاء من بعد بخبر المبعث. ولكن براعة البوصيري تتجلى في ربطه الدقيق بين التحنث والوحي وخديجة رضي الله عنها وتثبيتها النبي صلى الله عليه وسلم وأنها كانت له وزير صدق:
ألف النسك والعبادة والخلـ ... ـوة طفلًا وهكذا النجباء
وإذا حلت الهداية قلبًا ... نشطت في العبادة الأعضاء
صدق. وهذا من أبيات الحكمة.
بعث الله عند مبعثه الشهـ ... ـب حراسًا وضاق عنها الفضاء
تطرد الجن عن مقاعد للسمـ ... ـع كما تطرد الذئاب الرعاء
وأحسب أنه يشير بإلماع خفي إلى الكهان بقوله كما تطرد الذئاب الرعاء، أليس الأعشى يقول:
ما نظرت ذات أشفار كنظرتها ... حقًا كما نطق الذئبي إذ سجعا
عنى بالذئبي كاهنًا بعينه هو سطيح فيما ذكروا والتي نظرت هنا زرقاء اليمامة والأشفار أراد بها أجفان العين المفرد شفر بضم فسكون وهو أصل منبت شعر الجفن وللشفر معنى آخر وليس المراد ههنا، أعني بيت الأعشى إذ لم يقصد إلى معنى التأنيث ولكن إلى معنى النظر. هذا ويقوي ما ذهبنا إليه من الإلماع إلى الكهانة قوله من بعد:
فمحت آية الكهانة أيا ... ت من الوحي ما لهن إمحاء