فقال له الحجاج: أشاعر أم خطيب فزعم له الأشقري أنه هما معًا، وكذلك كان وكانت قصيدته. وقد سبق الاستشهاد بأبيات منها في معرض الحديث عن البحر البسيط. وهي تنظر في جملتها من حيث نفس الشكل، على اختلاف ما في تفاصيل الغرض، إلى كلمة لقيط الإيادي:
يا دار عمرة من محتلها الجرعا ... أهدت لي الهم والآلام والوجعا
وكأن الحجاج أشار إلى هذا من طرف خفي إذ تمثل في حسن ثنائه على المهلب بأبيات منها:
وقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعًا
ما زال يحلب هذا الدهر أشطره ... يكون متبعًا طورًا ومتبعًا
حتى استمرت على شزر مريرته ... مستحكم الرأي لا قحمًا ولا ضرعًا
ولا ريب أن أبا تمام أخذ من هاهنا في قوله:
من لم يقد فيطير في خيشومه ... رهج الخميس فلن يقود خميسًا
إلا أنه أشربه ما ذكرنا من تفسير قول بشار «كأن مثار النقع» فأعطى مثار النقع هذه «أبعادًا» كما يقال بلغة أبناء الآن.
وقد ذكروا أن بشارًا كان فيما كأنه خطيبًا، ونفس الخطيب في فخماته جهير، وقد وصفه صاحب الأغاني بجهارة الإنشاد وأنه به يروع القلوب. وأحسب أن ميميته التي قيل إن أصل أولها كان هكذا:
أبا جعفر ما طيب عيش بدائم ... وما سالم عما قليل بسالم
قد كانت أطول بكثير مما بلغنا، إذ قرنوها بميميات الفرزدق وجرير وهذه كانت طوالاً. وقد كان أبو تمام خطيب فؤاد وقلم مع مقدرة له فائقة على طرب الإيقاع والإطراب به.
وحسبك شاهدًا:
السيف أصدق أنباء من الكتب
فقد جمع فيها بين متانة النظم، ووحدة الغرض، وجهارة صوت الخطيب، ورنين غناء الشاعر وموسيقاه. ومن قدمه بها على أبي الطيب فعسى ألا يكون بعيدًا من الصواب.
وقد رتبها ترتيبًا بالغ البراعة. بدأ بمدح السيف وثني بالسخرية من المنجمين وأقاويلهم وأباطيلهم واندفع بعد إلى ذكر الفتح الجليل:
السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهن جلاء الشك والريب
والعلم في شهب الأرماح لامعة ... بين الخميسين لا في السبعة الشهب
هذا الغزل بالسيف والرمح جعله أبو تمام مكان النسيب. وما أشك أن أبا الطيب قد لبث دهرًا يود لو أن هذا كان قد ادخر له حتى يقوله هو- وقد حاوله في قوله:
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي ... المجد للسيف ليس المجد للقلم
اكتب بنا أبدًا بعد الكتاب به ... فإنما نحن للأسياف كالخدم
أسمعتني ودوائي ما أشرت به ... فإن غفلت فدائي قلة الفهم