روضته كأنما نظر إليه وأخذ منه.
وعلى تشابه شكلي «عفت الديار» و «هل غادر الشعراء» بينهما فرق نلفت النظر منه إلى أمرين، أولهما أن لبيدًا يبدأ بعفاء الديار مقدمًا عليه راضيًا عن قوله، وعنترة يبدأ بالتساؤل عن قيمة سؤال الديار وكأنه حائر كيف يبدأ. فقربنا عنترة إلى نفسه بهذه البداية الصادقة التساؤل. ولكن لبيدًا آثر أن يكون فخمًا وفي ذلك بعد ما.
وثانيهما أن صاحبة لبيد، وقد سماها نوار ومعنى نوار النفور أو ذات الصد والتمنع، قد صارمته وصارمها. وليست كذلك صاحبة عنترة التي رحلت فجاءة:
ما راعني إلا حمولة أهلها ... وسط الديار تسف حب الخمخم
فهو يريد أن يلحق بها. خطاب لبيد لصاحبته فيه شدة. صاحبته رمز خصومة. ولكن صاحبة عنترة حبيبة يريد أن يتودد إليها. حبيبة سواء أكان هي أنثى بشرًا هو عاشقها أم شيئًا آخر جعلها رمزًا له.
وقد خلص لبيد آخر أمره إلى فخر من فخر خطب القبائل:
إنا إذا التقت المجامع لم يزل ... منا لزاز عظيمة جشامها
ومقسم يعطي العشيرة حقها ... ومغذمر لحقوقها هضامها
فضلاً وذو كرم يعين على الندى ... سمح كسوب رغائب عنامها
من معشر سنت لهم آباؤهم ... ولكل قوم سنة وإمامها
وقد خلص عنترة إلى وصف ملحمي رائع وحماية فارس نبيل.
نفس الخطابة أجهر شيئًا عند لبيد. ونفس التغني أعمق عند عنترة. وفي ترتيب السبع الطوال الذي في شرح ابن الأنباري الصغير معلقة عنترة رابعة بعد معلقة زهير. ولعل هذا أجدر بها من أن تجعل تالية لنون عمرو بن كلثوم. والسبع بعد كلهن روائع جياد. وكذلك الثلاث المتماتهن عشرًا.
هذا وطرائق الأشكال الثلاثة اللاتي نعدهن أوصلاً قد خلط الشعراء بينها. وقد نبهنا من قبل إلى جعل سحيم وعمرو آخر قصائدهما في نعت الناقة وكذلك فعل الفرزدق في الرائية التي ذكر فيها زيادًا فجعل ذكره زيادًا مكان التخصير. وقد جعل أسلوب الخطبة يواجه بها شخص واحد أو جمهور يغلب، وكان ما يدعو إلى هذا الوجه من القول من أحوال العصر وفتنه كثيرًا. وقد تعلم خبر كعب بن معدان الأشقري إذ وفد علي الحجاج من قبل المهلب بن أبي صفرة بخبر النصر على الخوارج فأنشده:
يا حفص إني عداني دونك السفر ... وقد سهرت فأذى جفني السهر