ولا ريب أنه أصاب ملكة الإيقاع والوزن من المديح النبوي. ولكنه عكف على الشعر القديم عكوف محب. وأتيح له من درس أساليب الجزالة ومن مختار بلاغات العربية حظ عظيم. ومختاراته تشهد بسعة اطلاعه وجودة نقده الشعر وتذوقه له. وقصيدة البارودي شكلها وديباجتها كل ذلك عربي نقي أصيل.
بردة البارودي التي جاري بها البوصيري ليست من جياده. ومن عجب الأمر لم تكن للبوصيري، وهو في الشعر قمة، جياد في ما نظمه للدنيا. فأنظر كيف دار تاريخ الأدب دورة كان ناطقها عهد انتصار الإسلام على الصليبين من لا يجيد حقًا إلا في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام والدفاع عن الإسلام، وكان ناطقها عهد تغلب خلفاء الصليبيين على أبناء المسلمين من لا يجيد حقًا في هذا الباب، ولكن في القريض الذي يجيش من قلب كقلب أبي الطيب ولسان من معادن النابغة وزهير وأمرئ القيس.
البارودي سيد «الرومانسية الحديثة» في الشعر العربي. الرومانسية اصطلاح أدبي عصري أخذناه من الإفرنج. ومعناه الوجدانية أو وجدانية الأسلوب. وصدق «برتراندرسل» إذ زعم أن كل الشعر الجيد لا بد فيه من «الرومانسية» إذ كل الشعر الجيد قلبي الجوهر وجدانيه. غير أن الوجدانية الاصطلاحية -التي هي الرومانسية- يدخل فيها مع الوجدان نوع من التكلف له والغلو فيه والتواجد به. البارودي من كل ذلك برئ.
قال الدكتور محمد صبري السوربوني رحمه الله في كتاب له اسمه «نشأ البارودي في بيت مجد مؤثل، هو ابن حسن بك حسني الذي كان من أمراء المدفعية ثم صار مديرًا لدنقلة وبربر على عهد محمد علي باشا، ابن عبد الله بك الجركسي ينتهي نسبه إلى المقام السيفي نوروز الأتابكي أخي برسباي قرأ المحمدي. والترك والجركس هم آخر طبقة من الغرباء وفدوا إلى مصر واتخذوها وطنًا وتوالدوا فيها فأصبحوا «مولدين» - روى صاحب الهلال أن البارودي كان شديد الحرص على معرفة نسبه وأنه