وما جاء العهد العباسي حتى كان فن الرجز المزدوج قد رسخت قدمه وفشا أمره. فنظم أبان بن عبد الحميد اللاحقي أرجوزة في الفقه، وأخرى حول بها كتاب كليلة ودمنة من منثور إلى موزون مقفي، ومطلعها:
هذا كتاب أدب وفطنه ... وهو الذي يدعي كليل ودمنة
ونظم أبو العتاهية أرجوزته الطويلة المسماة ذات الأمثال، وقد ضاع أكثرها فلم تبق منها إلا أبيات نحو:
إن الشباب والفراغ والجدة ... مفسدة للمرء أي مفسدة
يا للشباب المرح التصابي ... روائح الجنة في الشباب
وقد أكثر الناظمون بعد ذلك من هذا الفن حتى نظموا فيه لا في النحو والفقه والأمثال فحسب، ولكن في الرياضيات والمنطق وغير ذلك من العلوم. وقد سجل الخليفة الأديب الشهيد عبد الله بن المعتز أحداث عصره في مزدوجة طويلة. واحتذى حذوه ابن عبد ربه في العقد (الجزء الرابع) فنظم تاريخ الأندلس. وقد أثنى الدكتور أحمد أمين ثناء حسنًا على أرجوزة ابن المعتز في كتابه ظهر الإسلام وقال ما فحواه: إنها تسد بعض النقص في الشعر العربي من حيث إنه خال من الملاحم الشعرية (١).
ولولا ما اتصف به العلامة أحمد أمين من الجد في البحث وصدق الحدس ونفاذ البصيرة، لم يكن الناقد لينوط كبير اهتمام بملاحظته هذه. وآمل ألا يكون العلامة أحمد أمين قالها وهو جاد حقًا - أعني وهو يعتقد أن في أدب العربية نقصًا عظيمًا من حيث خلوه من الملاحم. فللعرب أسلوب في النظم يختلف اختلافًا ظاهرًا عن أسلوب
(١) ظهر الإسلام سنة ١٩٤٦ ص ٢٦، هذا وقد عثرت بأخرة في كتاب الدكتور أحمد أمين (النقد الأدبي مصر ١٩٥٢ ص ٧٧) ما يفيد شكا في صحة التقسيم الأوربي للشعر، فلينظر.