كان لواء القيادة الفكرية بيد المشايخ والفقهاء. ثم انتقل من هؤلاء إلى كبار الأفندية، علي مبارك، إسمعيل صبري، أحمد شوقي، وهلم جرا- وجاء التعليم النظامي الخالي من أساس القرآن وعلوم الدين والنحو القديمات. القرآن واللغة الآن جزء من برنامج المدرسة مع اللغات الإفرنجية والحساب والجغرافية. وحظ هؤلاء من الاهتمام بهن أكبر إذ تمهيدهن للوظائف ذات الجاه أشد وأوكد. وهكذا أخذت المدارس النظامية تخرج أجيالاً من الأفندية لا يلبسون زي الشيوخ الذي كان يتزيا به العلماء ولكن السترة والبنطلون والكرفتة- الزي الأفرنجي المظهر، لا يميزه في كثير من بلاد المسلمين عن زي الأفرنج إلا الطربوش على الرأس. وقد ترك هذا من بعد، في أكثر البلاد.
كان حظ الأفندي الجديد من علم العربية أول الأمر لا بأس به، إذ كان لدروس تطبيق النحو والإنشاء فيه مكان. ولكن التنافس على الوظائف من بعد وزيادة عدد المتسابقين عليها جرت إلى ما قدمنا ذكره من تدهور العناية بالعربية وموادها وعلوم الدين ودرس القرآن.
وتصدى الأفندية المثقفون بثقافة الإفرنج من أجل الوظائف لحمل ألوية القيادة الفكرية التي صارت إليهم من جيل أوائل النهضة. وعلى رأسها الأدب والشعر إن لم يكن أهم أبوابه فإن أهميته ما زالت بالغة.
وقد كان للعلماء العارفين باللغة نحوها وصرفها ميراث من سلطانهم القديم. إلا أنه الآن قد زعزعه أمران- حملة أوائل دعاة التجديد المتطرفين على شوقي وأصحابه الذين انتزعوا لواء دولة الشعر من المشايخ، ثم ما جعل يغلب من جهل دقائق اللغة، جهلاً جعل يزين لكثير من جيل الأفندية الجديد التنكر لقديمها والثورة على قواعدها. جيل الأفندية الجديد، ولا سيما طبقته التي تغلغلت فيما ظنته في صميم حضارة أوروبا من طريق المهن الكبرى كالطب والهندسة والقانون والتخصصات العالية المستوى في الإدارة والجيش والتدريس العصري، جعل يعد نفسه طليعة التقدم، والطرف اللاحق بأوروبا من هذا العالم الذي انتماؤه، حق انتمائه، إليه، ولكنه متخلف يا للأسف.
ومن عند ههنا أجاز لنفسه من جسارة التعدي على أساليب الفصاحة ما لم يكن يجيزه جيل من اقتدوا بشوقي وحافظ- أجاز ذلك باسم الثورة على القديم، والتجديد