للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي بعض أبيات «الخريف» على خفة وزن، شيء من حلاوة روح إبراهيم ناجي وحرارة أنفاس وجدانه- سبب هذه الحرارة مواجهته لنا بخطاب العاطفة، فيشعر القارئ أن له صدقًا وإقدامًا على القول والإفصاح به من غير تكلف تقية أو رياء:

أي سر فيك إني لست أدري ... كل ما فيك من الأسرار يغري

خطر ينساب من مفتر ثغر ... فتنة تعصف من لفتة نحر

قدر ينسج من خصلة شعر ... زورق يسبح في موجة عطر

في عباب غامض التيار يجري ... وأصلاً ما بين عينيك وعمري

****

ذات ليل والدجى يغمرنا ... أترى تذكر إذ جزنا المدينة

كلما روعت من نار شج ... حر ما يصلي تلمست جبينه

بيد شفافة مثل الندى الرطـ ... ـب تعيد النار بردًا وسكينة

أيها الآسي لناري هذه .. ما الذي تصنع بالنار الدفينة

من تأمل كثيرًا من شعر نزار قباني وجده يستعين بمثل هذا من كلام الدكتور ناجي رحمه الله ويتوكأ عليه. خطابة ناجي عاطفية فيها من روح أسى انفطار «الأوبيرا» - هذا جانبها «الرومانسي»، أما نزار فقد انصرف من الخطابة بالذكرى

Thy hair soft- lifted by the winnowing wind (١)

الوجدانية، إلى نوع من مماشاة الشباب ومغايظة حسانه بغزل مشاغب. ههنا أيضًا «رومنسية». «رومنسية» تعمد الخروج عن المألوف. ولكنها «رومنسية» لا تخلو من رخص روح الشارع الذي تجتهد أن ترتفع به إلى مستوى الفن. الحق أنه شارع الصحافة اليومية التي لا يراد لها أن تعيش إلى الغد، ولكن قد تبقى عند من يحرص على ذلك في الأضابير:

يا شعرها على يدي ... شلال ضوء أسود

المه سنابلا ... سنابلا لم تحصد

لا تربطيه واجعلي ... على المساء مقعدي

من عمرنا على مخـ ... دات الشذى لم ترقد

وحررته من شريـ ... ـط أصفر مغرد

واستغرقت أصابعي ... في ملعب حر ندى

إلى آخر ما قاله، وقد كتبت في الديوان أشطارًا، وهي من مجزوء الرجز كما ترى.

هذا وعلى محمود طه كأنه أسلم متن أسلوب من إبراهيم ناجي غير أن أنفاسه أبرد. ذلك بأنه يبالغ في الرقة ويهندس عباراته بفرط صقل لها. وعلى أنه سمى ديوانًا له بالملاح التائه، نجد حسناء كيتس التي أثرت على إبراهيم ناجي، أثرت أيضًا على المهندس. وينبغي أن ننتبه بعد إلى أن كلاً هذين الرومنسيين العربيين لا يريد لنفسه موت الحب الأعوج الذي عند La Belle Dame Sans Merci وعند Christabet الجنية المساحقة مصاصة الدم- يريد فقط موتًا مجازيًا (٢):


(١) شعرك يرفعه برفق مر ذور الرياح- الضمير على الخريف وجعله الشاعر إنسانة.
(٢) ديوان ناجي: (١٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>