وهو بحر كأنما خلق للتغني المحض سواء أأريد به جد أم هزل. ودندنة تفعيلاته من النوع الجهير الواضح الذي يهجم على السامع مع المعنى والعواطف والصور حتى لا يمكن فصله عنها بحال من الأحوال. ولهذا السبب فإن الشعراء المتفلسفين أو المتعمقين في الحكمة وما إلى ذلك من ضروب التأمل، قل أن يصيبوا فيه أو ينجحوا. ذلك بأن الحكمة والتأمل -مهما كانت مناسبتها- يحتاجان إلى هدوء وتؤدة، وفي النظم خاصة يحتاجان لأن يكون نغم الوزن شيئًا منزويًا يصل إلى الذهن من غير ما جلبة ولا تشويش، وكأنه إطار للكلام الموضوع فيه، لا جزء هام من صورته ورسمه.
خذ زينبية صالح بن عبد القدوس المشهورة في الحكم:
صرمت حبالك بعد وصلك زينب ... والدهر فيه تصرف وتقلب
وفيها من الأمثال نحو قوله:
واحذر مصاحبة اللئيم فإنها ... تعدي كما يعدي الصحيح الأجرب
ونحو قوله:
يعطيك من طرف اللسان حلاوة ... ويروغ منك كما يروغ الثعلب
تأمل هذه القصيدة تجد لفظها شريفًا ومعانيها كذلك. ولكنك تجدها مع كل هذا لا تهزك ولا تحركك، كما ينبغي للشعر العظيم أن يفعل. وليس السر في ذلك جفاف حكمها ومواعظها. فهي كلها نصائح غالية، وإنما السبب الرئيسي أن جوها جاد جدًا لا يسمح بالدندنة والجلجلة التي تنشأ عن تفعيلات الكامل.
وقد كان أبو الطيب المتنبي من رجال التأمل والحكم والوثبات العقلية العميقة وقد أدرك بفطرته الصادقة أن البحر الكامل لم يخلقه الله له فتحاماه في الكثير الغالب، على أنه قد تعاطاه في بعض القصائد نحو قوله: