فيقول ما اسمك واسم أمك إنني ... بالعلم عما في الغيوب أترجم
يولي بأن الجن تطرق بيته ... وله يدين فصيحها والأعجم
وشاعر آخر من شعراء الفكر والتأمل تعاطى الكامل وأكثر فيه إكثارًا بينًا مع إجادة في ذلك، أعني أبا تمام الطائي. وأبو تمام أبدًا عقدة من العقد، يخالف الناس في أكثر ما يأتي به، ويأبي مع ذلك إلا أن يجيء سابقًا مجليًا. ومن مخالفاته أنه جعل الكامل ميدانًا لتعمقه وتأمله حتى صار عنده أشد ملاءمة لذلك من سواه من البحور التي يجيء التأمل فيها طبيعيًا مناسبًا لسنخها وجوهر نغمها.
والسر في ذلك أن أبا تمام كان يتغنى أفكاره وتأملاته فلا تفسدها دندنة الكامل بحال من الأحوال. وقد كانت ملكة الرجل في الألفاظ بالغة في القوة وكلفه بها غاية في ذاته. فجمع في نفسه أمرين: حب الألفاظ لذاتها ورونقها الفني، وما يمكن أن يتأتى منها من الأجراس والأنغام، ثم مع ذلك حب المعاني والتأملات والأخيلة الغريبة. وكانت صناعته كلها مبنية على التأليف بين هاتين الناحيتين. ولذلك لاءمه بحر الكامل.
خذ مثلا بائيته في مالك بن طوق:
لو أن دهرًا رد رجع جوابي ... أو كف من شأويه طول عتابي (١)
وتأمل قوله في استعطاف مالك على قومه:
ورأيت قومك والإساءة منهم ... جرحى بظفر للزمان وناب
هم صيروا تلك البروق صواعقًا ... فيهم وذاك العفو سوط عذاب
فأقل أسامة جرمها واغفر لها ... عنه وهب ما كان للوهاب