من يعتفي العافي بهمته ومن ... يحدو إليه المعتم المعتام
أين السجاب الجود والقمر الذي ... يجلو الدجى والضيغم الضرغام
أين العبوس المشمئز إذا رأى ... جنفا وأين الأبلج البسام
سكن العلا أودى فهن ثواكل ... وأبو العفاة ثوى فهم أيتام
لا يهنأ الروم استراحتهم فقد ... هدأوا بأفواه الدروب وناموا
أمنوا وما أمنوا الردى حتى انطوى ... في الترب ذاك الكر والإقدام
يا صاحب القبر المقيم بمنزل ... ما للأنيس بحجرتيه مقام
قبر تكسر فوقه سمر القنا ... من لوعة وتشقق الأعلام
ملآن من كرم فليس يضره ... مر السحاب عليه وهو جهام
نستقصر الأكباد وهي قريحة ... ونذم فيض الدمع وهو سجام
فعليك يا حلف الندى وعلى الندى ... من ذاهبين تحية وسلام
وبرغم أنفي أن أراك موسدا ... يد هالك والشامتون نيام
ما كنت أحسب أن عزك يرتقي ... بالنائبات ولا حماك يرام
قد عدت فيه الحوادث طورها ... وتجاوزت أقدارها الأيام
فاذهب كما ذهبت بساطع نورها ... شمس النهار وأعقب الإظلام
فهذه مناحة ليس إلا، ولكنها من النوع الرنان العالي، ولأبي عبادة من الكامل روائع هي من فرائد الشعر العربي بلا أدنى ريب. وليس ما اخترنا له من مفردات كلماته. ولكنها فيما نرى نهجه السهل الممتنع في تعاطي الكامل. ومن أجود ما نظمه البحتري في هذا الوزن وأحلاه قصائده:
رحلوا فأية عبرة لم تسكب ... أسفًا وأي عزيمة لم تغلب (١)
(١) ديوانه ١٩: ١.