هذا والله الشعر، لا ما نعلل به اليوم. انظر هداك الله إلى هذا الوشي الحبرة، إلى هذا النغم المسكر، وهذا التغني المندفع لا يقفه شيء. بحسب العربية من التراث متقاربيات الأعشى وحدها، ولولا أن أطيل وأَضيّع غرضي من هذا الكتاب لأنشدتها جميعًا مشروحة، ثم ثنيت بها من غير شرح خالصة ليندفع فيها القارئ. وما إخالها أريد بها إلا أن توقع في نوع من الإنشاد السهل البسيط الشجي. وما أرتاب أن الأعشى كان يتغنى بها فيفيد ممدوحه بذلك لذة الطرب بالنغم مع لذة الطرب بالبلاغة.
ولعمري لقد أفسد الأعشى بحر المتقارب على من بعده. فقد أفرغ فيه نفسه إفراغًا حتى لتكاد ترى شخصه، شيخًا فرح النفس، ذكيّ الفؤاد، عارفًا بفن القصص، حريصًا على إمتاع الناس.
وإني لما يطول تعجبي من مقالة الدكتور طه حسين في كتاب الأدب الجاهلي:«وخلاصة رأينا في الأعشى أنه شاعر عاش في آخر العصر الجاهلي، وتصرّف في فنون الشعر، أظهرها الغزل والخمر والوصف، ومدح طائفة من أشراف العرب. ولكن العصبية استغلت هذا المدح. ولعله كان قد ضاع فأضافت إليه مكانه مدحًا كثيرًا لليمنيين والربعيين، ومدحًا قليلاً للمضربين. ولاشك في أن بين هذا الشعر الذي يضاف إلى الأعشى مقطوعات وأبياتًا يمكن أن يكون الأعشى قد قالها حقًا، ولكن تمييز هذه الأبيات والمقطوعات مما يحيط بها من المنحول المتكلف ليس بالشيء اليسير. على أن هذا المنحول الذي يضاف إلى الأعشى مختلف أشد الاختلاف ففيه الجيد المتقن، وفيه الضعيف السخيف إلخ- ص ٢٥٣».
أقول: يطول تعجبي، لأن «الدكتور طه حسين» من دقة الذوق والمعرفة