ولا يخفى عليك أيها القارئ أن مذهب هذه الأبيات ليس ما نعهده من مذهب ابن أبي ربيعة، ولا أرتاب في أن طبيعة الموسيقا الوافرية هي التي اضطرته أن يورد قوله على هذا الأسلوب، ويترك ما هو أقدر عليه، من المذهب الحواري والتلطف والتظرف ومجيء مثل هذه الأبيات من ابن أبي ربيعة كالشيء الشاذ ولذلك تستحسن لا لأنها غاية في ذاتها. فأرجو أن يقوي هذا عندك ما تقدمت إلي به آنفًا من أن بحر الوافر يتطلب أداء خاصًا.
وهاك مثلاً آخر من ابن أبي ربيعة يؤيد ما زعمت [١: ١٤٥]:
تقول وليدتي لما رأتني ... طربت وكنت قد أقصرت حينًا
أراك اليوم قد أحدثت شوقًا ... وهاج لك الهوى داءً دفينًا
وكنت زعمت أنك ذو عزاءٍ ... إذا ما شئت فارقت القرينا
بربك هل أتاك لها رسول ... فشاقك أم لقيت لها خدينا
- أي صاحبه
فقلت شكا إلى أخٌ محب ... كبعض زماننا إذ تعلمينا
فقص علي ما يلقى بهندٍ ... فذكر بعض ما كنا نسينا
وذو الشوق القديم وإن تعزى ... مشوق حين يلقى العاشقينا
وكم من خلة أعرضت عنها ... بغير قلي وكنت بها ضنينا
أردت بعادها فصددت عنها ... ولو جن الفؤاد بها جنونا
ومذهب هذه الأبيات أشبه بمذهب عروة بن أذينة، منه بمذهب المخزومي. اللهم إلا البيتين الرابع والخامس ولا سيما قوله:«كبعض زماننا إذ تعلمينا» فهذان فيهما لمحة من نفس ابن أبي ربيعة المألوف. أم ترانا نتوهم ذلك لطول ما عرفنا هذا الشاعر، ولا شك أن هذه الأبيات التسعة أدخل في سنخ الوافر من الهائية التي في ابنة طلحة، إذ لم ينظمها الشاعر بقصد الغزل، وإنما نظمها بقصد البكاء على الشباب