كل ذلك فعلوه لا لشيء إلا رغبة في عرض الدنيا الزائل من جاه ومال. وكأنه يُعرض في هذا بالمنتصر ولي العهد، وعندي أن تعريضه في هذا المقام أبلغ من تصريح البحتري:«أكان ولي العهد أضمر غدره» البيت. ثم لما بلغ هذا المبلغ من السخط والغيظ، انفجر يبكي بكاء حارًا على المتوكل، فسماه شهيدًا، ووقف يتأمل جسده الممزق المضرج بالدم، ثم ذكر فضله عليه وإحسانه وبره. وكأنه لم يرض هذا البكاء والجزع فالتفت ينظر إلى الجسد الممزق، وأخرج من صدره آخر غضبة على القدر وعلى الدنيا، وهذه المرة لم يقف غضبه عند لوم القدر ولوم الرعية، وتبكيت ولي العهد ومن نفذوا أمره؛ بل تعدى ذلك إلى الخليفة المقتول نفسه وإلى من سبقوه من خلفاء. وهنا جسر على ما لم يجسر البحتري، وأدرك من سر النكبة ما لم يدركه: اليس بنو العباس أنفسهم هم الذين مهدوا لحدوث مثل هذه الكارثة؟ أليس المتوكل نفسه جديرًا باللوم لأنه لم يردع طغيان الأتراك، ولم يعمل على تقوية الدولة، بأهلها الذين أسسوها من العرب؟ ولم يبكي هو الآن على المتوكل أو على غيره من ملوك بني العباس؛ وقد رآهم يعتقدون من لا حُلوم لهم من العبدي والأعاجم، ويُقصون العرب، وينسون قرابتهم وعصبيتهم، وأن هذا الملك إنما قام بأسيافهم بادي بدًا. وإذ قد بلغ المهلبي هذا المبلغ، فإنه يقذف بآخر ما عنده من حسرة قائلاً:«قد وتر الناس طرًا ثم قد سكتوا» البيت. فالموتور إذن ليس المعتز ولا بنو العباس، وإنما الناس جميعًا. وها قد صمت الناس وذلوا ولم يثوروا كما ينبغي أن يفعلوا، فهل للمهلبي بعد ذلك إلا أن يموت بغيظه؟ .
نفس هذه القصيدة عنيف أعنف من رائية البحتري. وذلك العنف يرجع إلى غيظ الشاعر على الأعاجم، وإلى اللفظ الجزل الذي تخيره للتعبير عن هذا الغيظ، وإلى رنة البحر البسيط، ورنة البحر البسيط عندي أبلغ أثرًا من اللفظ الذي تخيره، لأن البحتري يشاركه في الجزالة بل يفوقه كثيرًا.