للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإما مذهب التجلد، وإما مذهب الجزع والضعف أمام المصيبة. فمثال الأول ما في دالية المهلبي، والثاني ما في رائية أعشى باهلة، والثالث ما في لامية جرير وشعر الخنساء. وقد تجمع بين المذهب الأول والثالث من غير توسط بينهما، وذلك ما فعله المتنبي في رثاء خولة، أخت سيف الدولة، بدأها بجزعه عليها، وختمها بسخطه على الأيام، ويأسه من الدهر. وقد تسلك مرثيات البسيط مسلك الدعوة إلى الثأر، كما في نونية حسان بن ثابت القصيرة التي رثى بها سيدنا عثمان حيث يقول:

ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يُقطع الليل تسبيحًا وقرآنًا

لتسمعن وشيكًا في ديارهم ... الله أكبر يا ثارات عثمانًا

وكل هذا يفسر ما ذكرناه لك من أن البسيط بحر النقيضين، إما الشدة وإما الرقة، ولا توسط في ذلك.

وإذا تركنا الرثاء ونظرنا في مدائح البسيط، وجدناها كلها تعمد إلى التفخيم، وتحم حم الخطابة، فإن كان صاحبها جاء بها معتذرًا، كما فعل كعب بن زهير أمام النبي صلى الله عليه وسلم، والنابغة أمام النعمان، فإنه يبالغ في الحلف، ويندفع في تمجيد الممدوح وإظهار قوته متطرفًا في ذلك. خذ مثلاً قول النابغة:

ما جئت من سيئ مما رُميت به ... إذن فلا رفعت سوطي إلي يدي

إذن فعاقبني ربي مُعاقبة ... قرت بها عين من يأتيك بالفند

نبئت أن أبا قابوس أوعدني ... ولا قرار على زأر من الأسد

فما الفرات إذا جاشت غواربه ... ترمي أواذيه العبرين بالزبد

يُمده كل واد مُترع لجب ... فيه ركام من الينبوت والخضد (١)

يظل من خوفه الملاح مُعتصمًا ... بالخيزرانة بعد الأين والنجد (٢)


(١) الخضد: ما تكسر من النبات.
(٢) الخيزرانة: سكان السفينة والأين: التعب. والنجد بالتحريك: العرق.

<<  <  ج: ص:  >  >>