ومن إليهم. وتأمل جريرًا والفرزدق، كيف يشعر العربي، لا بل الشرقي المعاصر ...
لا بل قد كان العباسي يقشعر من إقذاعهما! ألا تري أنهما لم يكونا ليفحشا كل هذا الفحش لو كان الشعور الأخلاقي على عصرهما ينفر من ذلك؟ وقس عليهما أصحاب الغزل بالمذكر، وابن حجاج وابن سكرة والواسانى وجماعة ممن ذكرهم صاحب اليتيمة. وما أحسب القارئ العصري إلا مشمئزًا نافرًا لو وقع بصره على بعض الألفاظ التي وقعت في أشعار هؤلاء، والغالب على عصرنا هذا بين طبقات المثقفين وأشباه المثقفين دقة الحس في المقامات العامة، إزاء كل لفظ من ألفاظ الجماع الصريحة، والألفاظ التي لها مساس بالفضلات الجسمية. وهذه الدقة في الحس ناشئة عن نوع من النفاق الاجتماعي، مصدره الشعور الأخلاقي السائد- وهو شعور مستمد من القيم البرجوازية الأوربية، وأوضح دليل أقدمه لك في هذا الصدد- سوى ما سبق من الأمثلة- هو أن الفقهاء، وقد كانوا أجرأ الناس على ذكر ألفاظ الجماع في معرض الدرس ورسائل الطهارة وما بمجراها، لا يكادون يقدمون اليوم على التلفظ بأمثال " ألطفت المرأة: أي أدخلت يدها بين شفريها"، وأمثال:"حتى تغيب الحشفة في فرج" ونحو: "مذي وودي ومني" في المقالات التي ينشرونها في الصحف العامة والمجالات الدينية. وقد كانت مجالس الفقه في الزمان الماضي هي المكان "المحترم" الذي يمكن أن ينفس المرء فيه عن الكبت الأخلاقي المتعلق بالألفاظ، إن لم يكن هذا المرء من شعراء المجون والسخف أو هواتهما. وقد تغيرت الأحوال الآن، فأصاب الفقهاء لفح من تزمت البرجوازية الأوروبية، عن طريق طبقة المثقفين من الأفندية، فجعلوا يتزمتون كما تقضي روح العصر. وأوصدت الأبواب أمام الأشعار الخليعة، فانزوت إلى أركان يلحظها منها الذوق العصري شزرًا. وأصبح المجال "المحترم" الوحيد الذي يمكن أن ينفس فيه المرء عن رغبته في التعبير الفاحش، هو مجال علوم النظر الحديثة وخاصة علوم الاجتماع كالأنثروبولوجيا. وللبروفسور مالينوسكي في وصف القبائل الهمجية، مثل سكان