والعامة والسوقية والغوغاء لم يكن هم أدب في الماضي، كلا، ولكن أدبهم كان من نوٍع محتقر، لم تتسع له صدور الكتب. وانفراد العلية بأمر الأدب في الماضي، كان يملي على الكتاب والشعراء ذوقًا خاصًا في تخير لألفاظ، هذا الذوق تسيطر عليه الرغبة في تملق الفضائل الاجتماعية التي يحرص عليه العلية، والازدراء لكل شيء يصدر من السفلة، فكلمات السوقية والغوغاء كان محرمًا علي الأديب استعمالها، خشية أن يتسرب منها قمل أو بق إلى ملاء الأمير أو الوزير، أو ثياب الحاشية الظرفاء. والكلمات التي لا تستعملها السوقة، ولكن يجوز أن يربطها العقل بظاهرة سوقية، تجري هذا المجري. وقد عابوا علي المتنبي قولة:
وكل طريق أتاه الفتى ... علي قدر الرجل فيه الخطا
لا لشيء إلا لأنه استعمل مثلا تنطق به العامة. وقد مات كثير من الكلمات القديمة المعبرة لتعاطي العامة إياها، وسمي هذا التعاطي بالابتذال والسوقية، وكلمة:"علق" التي يتمثل بها البلاغيون كثيرًا، ما دهاها فأنزلها من مرتبة "العلق النفيس" إلى معني الأبنة، إلا استعمال الدهماء لها، ممن تكون المحبة والغرام والشوق والعشق ونظائرها من الكلمات عندهم من قبيل مرادفات المعنى الآخر. ومنذ استولت الطبقات المتوسطة علي دولة الأدب، أخذ كثيرٌ من أساليب العلية الماضيين وألفاظهم في الانقراض، "وحسبك دليلا على ذلك، أننا لا نستعمل الآن طريقة القاضي الفاضل في استهلال الرسائل، ولا نتكلف الكلمات الديوانية التي كان يتكلفها كتاب القرن الماضي"، كما تسرب كثير من الكلمات التي كانت تعد مبتذلة وسوقية إلى ساحة الأدب الرفيع.
ولا أشك أن انتشار القراءة مكان الأمية التي كانت غالبة على الناس، تغلب الصحافة علي ميدان التعبير في أكثر البلاد. سيجلبان تغيرًا عظيمًا جدًا في الأساليب الأدبية. وشد ما أخشى أن يصير تملق الدهماء هو الغرض الأدبي الأول. وهذا بطبيعة