ولعل هذه التفرقة بين المرئيات والمسموعات، تهدينا إلى إدراك السر في ارتفاع الشعر والموسيقا، عن الرسم والنحت والبناء. وجميع هاته فنون عبر بها البشر عن أروع ما شعروا به، وبأبهر ما قدروا عليه، ألا ترى أن المكان هو البعد البارز في الرسم والنحت والبناء؟ والمكان مع أنه من ظواهر الحياة، نجد أنه صنو الجانب المادي الفاقد للروح منها، فهذا يجعل التعبير عن طريق هذه الفنون أدنى إلى المادة، وأبعد الزماني، والزمان كأنه صنو الروح، التي إنما تمر أنفاسًا، وخفقات خفقات.
وقد جعل أرسطا طاليس الشعر في المنزلة العليا من الفنون، ولا أشك أنه أعلى منزلة من الموسيقا، لأن هذه يغلب عليها الزمان غلبة بينة، بحيث يصير عامل المكان المتجلي في نفس هيولي الأصوات ضئيلا خافتًا، كأنه لا موجود، أما الشعر وإن غلب الزمان عليه، فان للمكان فيه بروزًا ما-فهذا يجعله أشبه بحاق الحياة، من كلا الرسم والموسيقا اللذين يذهب أحدهما إلى المادة مذهبًا بعيدًا، ويذهب الآخر إلى الروح مذهبًا بعيدًا.
هذا، وحقيقة الجمال -مسموعًا كان أو مرئيًا- تدور كلها على أمرين:
الكل، والتفصيل. فالكل في المرئي يتجلى في الشكل والهيئة العامة، والتفصيل يتجلي في الألوان ومظاهر الضوء والظلام، التي بها تبرز حقيقة المرئي بروزًا كاملا. والكل في المسموع هو عبارة عن نوع رنته، وطبيعة جرسها. والتفصيل: عبارة عن تموجاتها ودخائلها.
فكل الصوت هو الذي يميز صوت البلبل من صوت الحمار، وتفصيل الصوت، هو الذي يميز، بين صوت بلبل وآخر. (هذا تمثيل، كما يقول سيبويه)، والحقيقة العميقة أن التمييز الحق بين صوت وآخر، يحصل بالكل والتفصيل معًا.