للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من بحور الشعر العربيّ، إلا حاول أن يبين لك الفنون التي تليق بهذا البحر، أو التي يلائمها هذا البحر، وضرب لذلك الأمثال في استقصاء بارع لهذا البحر، منذ كان العصر الجاهليّ، إلي أن كان العصر الذي نعيش فيه، وهو يعرض عليك من أجل ذلك، ألوانًا مختلفة مؤتلفة من الشعر، في العصور الأدبية المتباينة، ألوانًا في البحر الذي أقيمت عليه، وفي الموضوعات التي قيلت فيها، ولكنها تختلف بعد ذلك باختلاف قائليها، وتباين أمزجتهم، وتفاوت طبائعهم، وتقلبهم آخر الأمر بين التفوّق والقصور، وما يكون بينهما من المنازل المتوسطة والمؤلف يصنع هذا بالقياس إلي بحور العروض كلها، فكتابه مزدوج الإمتاع، فيه هذا الإمتاع العلميّ، الذي يأتي من اطراد البحث علي منهج واحد دقيق، وفيه هذا الإمتاع الأدبيّ، الذي يأتي من تنوع البحور والفنون الشعرية التي قيلت فيها، وتفاوت ما يعرض عليك من الشعر، في مكانها من الجودة والرداءة.

والمؤلف لا يكتفي بهذا، ولكنه يدخل بينك وبين ما تقرأ من الشعر، دخول الأديب الناقد، الذي يحكم ذوقه الخاص، فيرضيك غالبًا، ويغيظك أحيانًا، ويثير في نفسك الشك أحيانًا أخري. وهو كذلك يملك عليك أمرك كله، منذ تأخذ في قراءة الكتاب، إلى أن تفرغ من هذه القراءة. فأنت متنبه لما تقرأ تنبهًا لا يعرض له الفتور، في أي لحظة من لحظات القراءة. وحسبك بهذا تفوقًا وإتقانًا.

وليس الكتاب قصيرًا يقرأ في ساعات، ولكنه طويل يحتاج إلى أيام كثيرة، وحسبك أن صفحاته تقارب المائة والخامسة. وليس الكتاب هينًا يقرأ في أيسر الجهد، ويستعان به على قطع الوقت، ولكنه شديد الأسرْ، متين اللفظ، رصين الأسلوب، خصب الموضوع، قَيَّم المعاني، يحتاج إلى أن تنفق فيه خير ما تملك من جهد ووقت وعناية، لتبلغ الغاية من الاستمتاع به. هو طُرْفة بأدقّ معاني هذه الكلمة، وأوسعها وأعمقها. ولكنها طُرفة لا تقدَّم إلى الفارغين، ولا إلى الذين

<<  <  ج: ص:  >  >>