وهذا يذكرنا بقوله "ألم يسأل"، ثم عامدًا من بعد إلى نوع من التقسيم، حتى إذا خيل إلينا أنه قد ثسي التكرار مرة واحدة وهجره مليا، إذا هو يرجع إليه في نوع من خفية ولطف تأب: أولا يعيد، "وما
في قوله "تجاوبه فعلا الخ"، ثم بعد ثلاثة أبيات يأتي بلفظين قويتين مكررتين في شطر واحد، وذلك قوله:
"على كل طاوٍ تحت طاو"
ويلتزم هذا النوع من التكرار في قوله "الشر بالشر" و"أصلط أصلها".
هذا، والذي يتبع تكرار المتنبي في هذه القصيدة يجد فيه غرائب من الصناعة، يعينها الطبع الصافي المصقول.
وإذ قد يرى القارئ أن الغرض الذي نظمت له هذه الأبيات التي قدمناها، إنما هو غرض حربي، كأكثر سيفيات المتنبي، فإنه لا يملك إلا حسن الثناء على ما تخيره الشاعر لكرمه (مع اللفظ الجزل، والوزن الجليل) من هذا التكرار المتباعد المتقارب الذي هو أشبه شيء بتكرار دق الطبول، وتجاوب الصهيل، وتصايح الأبطال، وزمجرة الرجال. ولا يخفى أن الموسيقا التي تصاحب مثل هذا النوع من الكلام موسيقا حربية الطابع. والتكرار المتأتي له هومن خير ما يصلح لإبراز هذه الموسيقا وتأتي المتنبي هنا في الغاية العليا، من تخير اللفظ، وتنويع طرق التكرار، والافتنان فيها. ولا أشك أن أبا الطيب كان قد راض نفسه رياضة شديدة على استعمال أسلوب التكرار والدربة به. وإلا فكيف تيسر له أن يجئ بمثل هذه لأصناف المتقنة التي شهدت منها أمثلة في الأبيات السابقة؟ فقصارى الذي يستطيعه الطبع الصافي، هو أن يوفق إلى أنواع حلوة من التكرار في البحور التي تتقبل ذلك في يسر وسهولة، مثل الوافر والكامل، وهذا ما نجده عند جرير والبحتري. وأما أن يجئ التكرار خفي المداخل، متشعب الأصناف، لا في الكامل ولا البسيط وحدهما،