لقد كان في أهل الغضى لودنا الغضى ... مزار ولكن الغضى ليس دانيا
وقد أنشدنا هذه الأبيات من قبل، ونبهنا إلى ما في تكرار الغضى من قوة التأثير:
ألم ترني بعت الضلالة بالهدى .... وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا
وأصبحت في أرض الأعادي بعدما ... أراني عن أرض الأعادي نائيا
لعمري لئن غالت خراسان مهجتي ... لقد كنت عن بابي خراسان قاصيا
فإن أنج من بابي خراسان لا أعد ... إليها وإن منيتموني الأمانيا
كيف ترى تكرار خراسان هنا، وتدفقه وشيوعه بمعنى الحسرة! أم لا تكاد تشك أن الشاعر أورد خراسان في هذا النسق ليجعله بازاء الغضى الذي كان كرره في أول القصيدة ملتذًا بتكراره، متشوقًا إليه، أسيان على فراقه!
ثم أنظر إلى تكرار "الدر" في الأبيات الآتية، كيف مزج الشاعر فيه بين لوني الترنم المحض، والترديد الخطابي العاطفي:
فالله دري يوم اترك طائعًا ... بني بأعلى الرقمتين وماليا
ودر الظباء السانحات عشية ... يخبرن أني هالك من ورائيا
وهذا البيت الثاني يجري مجرى الرمز، إذ ليس المراد فيه أن الظباء قد سنحت وقت العشي لتخبر أهله بسنوحها أنه غير راجع (والسنح عند بعض العرب، وفي لغة مازن تميم كما يبدو، وهو الذي يوليك ميامنه، مارًا من جهة اليسار، وهذا يتشاءم به، وهو عند أكثر العرب ما ولاك مياسره، ونقيضه البارح). وإنما المراد منه أن الظباء سنحت لمالك صباح اليوم الذي كان فارق أهله في عشيته. فسنوحها له في الصباح كأنه إخبار منها له هو أنه سيهلك. وإذ قد أزمع السفر ولم يبال، فسنوحها له