للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قد كان كأنه إنذار وتحذير لأهله، وإخبار له بما قد حم له أمامه من الهلاك. والذي يجعلنا نرجع هذا المعنى، هو أننا لم نجد تزجر الظباء في العشايا، وإنما في الصبح والغداة، وذلك أول اليوم، ويكون للزجر والعافية حينئذ معنى، إذ بالصبح يستفتح المرء يومه. فقوله "عشية سرت عن أهلي". واستغنى بهذه العبارة القصيرة "السانحات عشية" ثقة بأن مراده واضح. هذا. هذا، ونرجع الآن إلى الأبيات التي كرر فيها الدر:

فلله دري يوم أترك طائعا ... بني بأعلى الرقمتين وماليا

ودر الطباء السانحات عشية ... يخبرن أني هالك من ورائيا

ودر كبيري اللذين كلاهما ... علي شقيق ناصح لو نهانيا (١)

ودر الرجال الشاهدين تفتكي ... بأمري ألا يقصروا من وثاقيا

ودر الهوى من حيث يدعو صحابتي ... ودر لجاجتي ودر انتهائيا (٢)

تكرار "الدر" في هذه الأبيات يحمل طابع الترنم الذي كنا تحدثنا عنه آنقًا، وهو في نفس الوقت تكرار صوري الطابع، ليس العمد فيه إلى تقوية النغم، بأظهر من العمد إلى تقوية روح الحسرة والندم، والأسى، وكأن "ولله دري" "ودر الظباء" و"در كبيري" الخ، كلها نوع من عض البنان، وقرع السن ونكت الأرض، تفجعا وتوجعا على ما قد فات، وقال رحمة الله يتذكر ماضيه:


(١) كبيراه: هما أبواه، كأنه يلومهما على أن لم يجدا في ليه عما عزم عليه من السفر. وقوله "لو نهانيا" بمنزلة: "ليته نهانيا". ولك أن تتأول: لو كان نهانيا لكان حق شفيق علي وحق نصح لي.
() يقول: لله در أولئك الذين شهدوا تفتكي وإصراري على السفر (كأنه يلومهم ويعنفهم) ألم يكن فيهم مشفق علي وناصح لي؟ لماذا لم يقصروا من وثاقي حتى لا أفلت وأصبحت ابن عفان، لماذا لم يضيقوا على وينهوني؟
(٢) يتحسر في هذا البيت ويقول: لله در هوى الوطن وهوى الجبائب، إذ دعا صحبتي فأقاموا. أما أنا فركبت اللجاجة والعناد. فلله در لجاجتي ٠ على سبيل التهكم) إذ جرتني إلى المهلاك، ولله در نهايتي إذ هي هذا الموت في دار الغربة.

<<  <  ج: ص:  >  >>