للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والعجب لمالك بن الريب، كيف يخلط بين ذكر القبر، والفناء، والأسى، والتشبيب، والنسيب، ونيران الأحبة تلوح على الأيفاع، ويبصرها القلب فيراع. أم لعل فرقه من الموت إنما كان لخوف مفارقة الغواني والصبا والشباب! أم تخال "السير وليم ميور" وقد كان صادقًا حين زعم أن العربي لا يفتأ يحن إلى النساء حتى إذا قذف به في لهاة الموت وأن هذه الفحولة كانت سببا من أسباب انتصار جند خالد على الروم في اليرموك (١)! والقارئ أصلحه الله، يرى هنا كيف يثب عقل الشاعر من فكرة الهلاك إلى فكرة الغزل مرات متعاقبة ... وما أشك أن الفكرتين بينهما رابطة قوية، قل هي وحدة الإنسان نفسه. ومالك ليس بأول شاعر ولا آخره، يفعل هذا الفعل (٢)، وإذا ذكر النار والغواني، تراه يرجع مرة أخرى إلي الحنين وذكر الغربة:

أقلب طرفي حول رحلي فلا أرى ... به من عيون المؤنسات مراعيا

وبالرمل مني نسوة لو شهدنني ... بكين وفدين الطبيب المداويا (٣)

وما كان عهد الرمل عندي وأهله ... ذميماً ولا ودعت بالرمال قاليا (٤)

فمنهن أمي وابنتاي وخالتي ... وباكية أخرى تهيج البواكيا

دع عنك ما في هذه الأبيات، من قوة الشوق، ولهيب الذكرى، وصاب الغربة، ولوعة الفراق، وانظر بعد إلى هذه "الرمل" كيف كررها الشاعر، ليوقع في


(١) راجع حديثه عن هذه الغزوة في كتابه: تأريخ الخلافة. History of the caliphate
(٢) خذ مثلا قول المتنبي:
زودينا من حسن وجهك ما دا ... م فحسن الوجوه حال تحول
وصلينا نصلك في هذه الدنيا فإن المقام فيها قليل
(٣) الرمل: بديار بني تميم.
(٤) قاليا: أي كارهًا من قلى يقلي (باب ضرب) إذا كره. وذكر ابن خالويه أنها من الأفعال العشرة الخالية من الحلقى التيجاءت على وزن "أبي يأبى"- هكذا رأيت في مخطوطة منسوبة إليه، مودعة مكتبة المتحف البريطاني وزعم ابن هشام أن ابن خالويه من ضعفاء النحاة.

<<  <  ج: ص:  >  >>