للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الباب. وأظن أن زخرفة سمائهم المصحية في الليالي الدرع والدهم، كانت تدفعهم من تلقاء نفسها دفعا إلى وصفها. وكيف لا، وقد كان حب الزخرف قد تربع من نفوسهم في المكان الأول، حتى إنه كان يدعوهم إلى زركشة الألفاظ والمعاني، في صفة كل شيء يستحسونه أو يصادفونه في حياتهم اليومية، كالشمع والمداد والفحم والنار والفاكهة وأصناف المصنوعات والأثاث المنزلي؟ أفلا يدعوهم إلى الافتنان في صفة السماء ونجومها، التي قد صاغتها الطبيعة في أشكال هندسة متقابلة، أشبه شيء بالجناس والطباق وأصناف البديع؟ لا بل ألا يكاد يجزم الشاعر بأن هذه الكواكب والأنجم الزهر ما هي إلا بديع نوراني في القصيدة أبدية لا نهائية، صنعها شاعر السماء الأكبر؟

وقد بلغ من حب الناس للبديع اللفظي، أنهم صاروا ينظرون إلى جناس أبي تمام المجازي، نظرتهم للتكرار المحض، وصاروا ينظرون إلى جناس الاشتقاق (وقد كان هو والبحتري يكثران منه) نظرتهم إلى تصرف الكلمة الواحدة الذي لا يبلغ مبلغ الجناس الأصيل. وقد عرفت رأي الرماني والعسكري وأصحابهما في ذلك. وعلى إكبار الناس لحبيب وأبي عبادة، فإنه قد صار يعجبهم نحو قول القائل:

عارضاه بما جنى عارضاه ... أو دعاني أمت بما أودعاني

وقد أشبعهم الحريري من هذا النوع في غرائبه التي أودعها المقامات.

وقد بلغ من حب الناس للبديع المعنوي، أنهم تجاوزوا مجرد الهندسة والمقابلة المعنوية التي كان يصنعها أبو تمام، إلى شيء شيبه بالفسيفساء، وكان التشبيه الوصفي عمدتهم في هذا الباب. مثال ذلك قول القائل:

كأنما النار في تلهبها ... والفحم من فوقها يغطيها

زنجية شبكت أناملها ... من فوق نازنجةٍ لتخفيها

<<  <  ج: ص:  >  >>